مقالات رئيس التحرير

جمالية التمرد في قصيدة” أغنية الردة” للشاعر أنور الخطيب

جمالية التمرد في قصيدة” أغنية الردة” للشاعر أنور الخطيب

بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير

أولًا- النص:

مللت النشيد خلف المرتلينَ

لي إيقاعي الخاص؛

أنا صوت يوسف

يبحث عن أخوةٍ خائنين

يصرخ من ظلمة الرحم: يا أخوتي

لماذا أبقيتموني حيّا

وفتحتم السماء للشياطين

كي تساومني على عذرية التين

خذوا نَبوءتي

فتنةَ امرأةِ العزيز

وإيمانَ فرعون

خذوا سكناي في الفردوس

واتركوا لي أبي

ليشهد نطفتَهُ المنشقّةَ عن شهقته

أنا،

ما زلت في البئر

وأبونا مصاب بزهايمر الضوء

مرة يرى ..

فيبحث عني في رحم أمي

ومرة لا يرى ..

فيفتش عنكم في غابة الندم

أنا،

ما زلت في البئر يا أخوتي

وأبحث عنكم لتحضروا ميتتي

أخاف أن تمشي الذئابُ في جنازتي

مللت النشيد خلف المرتلين

لي إيقاعي الخاص؛

أنا الصوت الذي تماهى مع الجذور في محنتها

أستعير منها بعض مائها

لأروي حلق موؤودة رقصت كي لا تموت.

تصرخ: يا أبتاه،

سقاني غريب من دمه فكبُرت،

أحببته

عشقته

ووهبته عذريتي التي قيّدتَها في مذبحك

وأنت يا أبتي لن تقتَلني

انتصرت أنوثتي على شرفِك

مللت النشيد خلف المرتلين

لي إيقاعي الخاص؛

أنا الصوت الناجي من حروب الردة

شهدت موتَكم جميعا كافرين

بقيت وحدي حيا

أنا المرتد الوحيد عن سيوفكم

وآلهتكم

الناجي الوحيد من تفاسيركم

فلا تقطعوا رأسي ولا تمثّلوا بي

سأزداد رِدة ولعنة

سأحمل آيتي وأشكو كبارَكم لله

سأقول: يا الله، لمَ لمْ تنجّنا من الوباء

وتركت هؤلاء.. يدعون أنهم أنبياء.

ثانيًا- التحليل:

تمهيد:

تكمن أهمية العمل الفني بعامة والأدبي بخاصة في ما يحمله من مرجعيات وإحالات فكرية وثقافية وفلسفية، فالقصيدة العابرة للزمن هي التي تحمل إلى جانب بنيتها الجمالية همًا فكريًا، بعبارة ثانية: هي القصيدة المحملة بالثقافة المتماهية مع جماليتها، بحيث لا تتحول إلى تنظير خارج لُغة الشعر الرقيقة. وإن علاقة الشعر والفكر تبدو للوهلة الأُولى متناقضة؛ فالأول يتعامل مع الحدس أما الثاني فميدانه العقل، ولكن النظرة العميقة تأبى ذلك؛ فالشاعر الحقيقي هو مفكر أو فيلسوف بشكل ما، يُثير مشكلات الحياة الكُبرى كالموت والغيب، يتأمل الوجود وما وراءه، ويعيد صياغة أحداث التاريخ بإعطائها أبعادًا في الحياة المعاصرة، ومفهومي هذا تُجاه الشعر لا يقتصر على الشعر المعاصر أو العربي فحسب، بل يشمل الشعر في معظم آداب العالم ومنها الشعر العربي قديمًا وحديثًا. ويُعد أنور الخطيب من أهم الشعراء المعاصرين الذين تتجلى في قصائدهم سمات الشعر العظيم، وهو شاعر وروائي مرموق له ما يُقارب سبعة وعشرين إصداراً أدبياً يتنوع ما بين الشعر والرواية والقصة والنقد والتوثيق الثقافي.

1-الصورة:

تتكون القصيدة من ثلاثة مقاطع ينفرد كل مقطع بفكرة خاصة وتترابط في سبيل خدمة الفكرة العامة للقصيدة، فكرة التمرد على ثقافة القطيع الموجهة من سلطة الاستبداد سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية، وقدم الشاعر هذه الأفكار بصورة فنية عالية الدقة، فالمتلقي يستحضر المشهد كاملًا كما لو أنه يُعرض أمامه، ونلخص الصورة الفنية في القصيدة بما يأتي:

أ- يستحضر الشاعر شخصية يوسف الصديق على أنه رمز للمظلوم الذي يخونه الأقربون بغية مصالح شخصية وفئوية ضيقة، ولا يكتفي بالاستحضار المجرد، بل يعيد صياغة القصة بما يناسب الحالة الشعورية، وقد استخدم تقنيات فنية في هذا المقطع، فمثلًا: جمع بين المتناقضات في قوله:”وإيمان فرعون” وهذا أسلوب في التصوير الرمزي يفتح النص على آفاق واسعة من التأويل، كأن نقول النار الباردة.

ب-رسم الشاعر صورة راقية للحب واعتبره محرضاً على التضحية وقلب موازين المجتمع من أجل تجلي الإنسانية في أعظم صورها، ورفض ثقافة القطيع التي تقصر شرف البنت على عذريتها، وقدم الفكرة في صورة فنية واضحة لا لبس فيها رغم جمالها، فجعل الرقص نتيجة للألم كما يرقص الطائر المذبوح، وأشار إلى التضحية بأعلى مراتبها

وهو الدم، وهذه كناية عن شدة الحب والرغبة في العطاء.

ج- يستمر الشاعر في تمرده وهو يدرك أن عاقبته قد تصل إلى القتل بأبشع الطرق، ويُلمح إلى حادثة مقتل الحسين بن منصور الحلاج.

2-الموسيقى:

يبدو من الشكل البصري للقصيدة أنها ملتزمة بالتفعيلة، ولكن الشاعر خلق فضاءه الموسيقي الخاص بما يناسب حالته الشعورية ومزاجه، وهذا أعطى الشاعر مساحة تعبيرية واسعة، فقد طوّع الشكل للفكرة والشعور دون حشد كلمات يُجبره عليها الوزن.

أما الإيقاع الداخلي فجاء متناسقًا من خلال تكرار بعض الكلمات أو الضمائر فمثلًا: نلاحظ تكرار الضمير في قوله: أنا المرتد الوحيد عن سيوفكم

وآلهتكم

الناجي الوحيد من تفاسيركم.

3-البنية الفكرية في القصيدة وتحليلها:

من بداية القصيدة يعلن الشاعر تمرده على توجه القطيع الذي يردد خلف صاحب السلطة دائمًا “آمين” متخذًا ثقافةً خاصة مضادة، ويستحضر شخصية يوسف عليه السلام ويطوعها وفق الحالة الشعورية للنص قائلًا: “أنا صوت يوسف، يصرخ من ظلمة الرحم: يا أخوتي”. الأخوة الخائنون هم القطيع ويوسف (الشاعر) يقف وحده في وجه الفكر الظلامي الذي تمرد عليه في مطلع القصيدة، أما الرحم فهو الوطن العربي الكبير الذي أظلم وضاق على الشاعر الرافض إتباع القطيع والتمسح بعروش السلاطين، ولأن الشاعر صاحب مبدأ أصبح أصحاب السلطان يضعون له العراقيل.

يتخلى الشاعر(يوسف) عن النبوة، أي عن تمرده على نشيد المرتلين وراء السلطان، وعن فتنة النساء التي أصبحت حادثة يوسف الصديق مع زليخة امرأة العزيز إشارة واضحة عليها في كل زمان ومكان، وكذلك يسخر من القطيع المخدوع بالسلطان فيقول: خذوا.. “إيمان فرعون”، بمعنى ابقوا مخدوعين به وأنشدوا له، ولا يريد فردوس هذا الفرعون. ومقابل ذلك يريد الشاعر أباه، وهنا لا يُشترط أن يكون المراد الأب بمعنى الوالد فالأول أشمل من الثاني في اللغة، وإنما قد يكون أبوه الذي رباه على فكر الرفض وعدم التصفيق خلف القطيع سواء كان والده أو قدوة فكرية ما. ثم يؤكد الشاعر أنه ما زال يدفع ضريبة تمرده “ما زلتُ في البئر”، وأن أباه حين يبحث عنه يجده متمسكًا بمواقفه، وأحيانًا يظن الأب أن القطيع قد يترك النشيد للسلطان، لكن ظنه يخيب.

وينتقد ثقافة القطيع تُجاه الحب، ويرى أن المرء إذا أحب يدفع دم قلبه، وحين يضحي العاشق من أجل معشوقه تتوج عشقها له بالعطاء. والحب الذي يعتبره القطيع عارًا سينتصر على الشرف المزيف.

أما المقطع الأخير فالقارئ له يستحضر مباشرة حادثة مقتل الصوفي الشهير الحلاج، فقد كان مغردًا خارج سرب عبيد السلطان داعيًا إلى المحبة وإصلاح ما أفسدته السلطة الظالمة، فقد قُتل قتلًا سياسيًا بشعًا بحجة شطحاته الصوفية، ولهذا أصبح الحلاج رمزًا للمثقف المضطهد. وقد فصلت الحديث عن رمزية الحلاج في كتابي” تأملات في الصوفية الجمالية”. وتجلى قول الحلاج: أَقَتلوني يا ثِقاتي.. إِنَّ في قَتلي حَياتي في “سأزداد رِدة ولعنة”.

ثالثًا- الخلاصة:

استطاع الشاعر في هذه القصيدة قول ما لا يمكن قوله في مجتمع القطيع، ورغم كل ما احتوته من رؤى فكرية ومرجعيات ثقافية تراثية حافظت على شاعريتها، أما الصورة فكانت على قدر عال من الفنية رُغم وضوحها إلى حد ما، فلم تكن موغلة في الرمز، وجاءت الموسيقى مناسبة للحالة العامة للقصيدة وفيها نوع من التمرد والجدة، فلم يقد دفة الإيقاع سوى الشعور.

زر الذهاب إلى الأعلى