مقالات رئيس التحرير

رواية رقصة الفيلسوف: الهامش والمسكوت عنه

رواية رقصة الفيلسوف للروائي أنور الخطيب: الهامش والمسكوت عنه، والكشف عن هوية الفيلسوف

فلسفةُ العتبات وعتباتُ الفلسفة

بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير

مدخل:

بعد القراءة الثانية لرواية” رقصة الفيلسوف” للروائي الفلسطيني الكبير أنور الخطيب، خرجتُ منها ممتلئًا بالجمال والمعرفة، فهي تستدرج القارئ بدهاء إلى النهاية دون أدنى شعور بالملل، رُغم ما فيها من حمولات معرفية وثقافية متعددة، فقد طبَّق الروائي مقولة ماركيز “الرواية في إحدى جوانبها تحقيق صحفي.” ومع ذلك لم أجد الصحفي بالمطلق بين سطور الرواية؛ فهي قدمت حقائق تاريخية بفنية عالية جدًا، وغير معهودة في الروايات العربية، وناقشت العديد من القضايا أبرزها: التلوُّن السياسي، واختلاف الثقافات، وإشكالية الدروز في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويبدو أن الروائي بذل جهدًا بحثيًا غير عادي في القضايا المطروحة، وأعاد إنتاجها في بناء فني شيق، علاوة على البناء النفسي والفكري للشخصيات لا سيما الشخصية المحورية “إبراهيم بشارات” الفيلسوف الفلسطيني الذي يلعب بمهارة على جميع الحبال ويتقن الرقصات جميعها: بعد أن يكون عضوًا في الكنيست الإسرائيلي ينتقل إلى بلد عربي ما فيصبح مقربًا من السلطة الحاكمة، ثم يذهب إلى لندن بأمر من زعيم السلطة، وخلال هذه الرحلات يُعارض نظام ويؤيد آخر، وفجأة نجده يُغير النغمة ولا يتعب من الرقص.
وإذا قرأنا الرواية في ضوء المتغيرات السياسية المعاصرة نستطيع المقاربة بين شخصية الفيلسوف إبراهيم البشارات والمفكر الفلسطيني عزمي بشارة، وأكادُ أجزم أن “الفيلسوف” هو عزمي بشارة مع تعديلات بسيطة في تفاصيل الشخصية لما تحتاج إليه تقنيات العمل الروائي، فالرواية ليست صورة طبق الأصل عن الواقع، وإنما تلتقط حالة معينة وتبني عليها عالمًا موازيًا.

بعد الانتهاء من القراءة الأولى كتبتُ: رقصة الفيلسوف أثارت في نفسي تساؤلات كثيرة عن الوطن، السياسة، الفلسفة، الدين، الأنوثة، بل عن الكتابة نفسها، فهذه الرواية جعلتني أعرف لذة جديدة في اللغة، إنها لذة الاكتشاف، لا أعني التأويل، وإنما قدرة لغة النص ذاته على التشبع بالثقافات والأفكار مع حفاظه التام على رشاقته الجمالية، وربما أعجز عن توصيل فكرتي في هذه النقطة لأن اللذة لا تُقال بل تعاش.

ويبدو أن القراءة الثانية أجابت عن هذه التساؤلات إلى حد كبير، فالسر الذي جعل من الرواية نصًا مغايرًا يتجلى في أمرين: الأول فلسفة الروائي الخاصة في معالجة إشكاليات كُبرى ما زالت ترهق المفكرين والباحثين. أما الثاني فهو فلسفة العتبات النصية، التي شكلت أهمية كبرى في بناء الرواية.

أولًا- المسكوت عنه (عتبات الفلسفة):

إن رواية رقصة الفيلسوف نص مغاير ومكتنز بالدلالات، لهذا فلا بد من التأني في القراءة والوقوف طويلًا عند الجُمل والمقولات التي يستنطق بها الروائي شخصياته، ولا نكتفي بمتعة السرد التي تُغوينا بها الرواية، فالروائي لا يُريد من القارئ الاستجابة الجمالية فحسب، بل يُقدم له طروحات فكرية ومعلومات ثرية، يُصرِّح بها أحيانًا ويُضمرها على لسان شخصياته في الأغلب. ولأن الروائي الخطيب اشتغل جيدًا على البناء الروائي من حيث السرد والشخصيات والحبكة؛ يحتاج القارئ إلى بذل جهد للكشف عن المستوى الفكري في الرواية، إن صحَّ التعبير ولعل هذه الطروحات تُثير العديد من المباحث في السياسة والفكر والتاريخ والجنس، إلخ.   

يطرح الروائي إشكالية قديمة، وهي علاقة المثقف بالسلطة، فالمثقف إما أن يكون ثوريًا لا يخضع إلى أنظمة الاستبداد والقوى الاستعمارية، أو على النقيض تمامًا. ولعب تدجين المثقف العربي لصالح السلطة دورًا مهمًا في تدمير الوعي العربي الجمعي، فأصبح المثقف أول من ينكسر في بلاط السلطة. وينتقد فكرة إقامة خلافة إسلامية في القرن الواحد والعشرين فيقارب بينهما وبين الدكتاتور العربي الذي يجلس على العرش إلى أجل غير مسمى، ومع ذلك فإنه يرفع شعار الديمقراطية. في الفصل الخامس تُثار مرة أخرى مهمة المثقف، ودوره في "الربيع العربي" أو بالتعبير الدقيق "الفوضى".  بالربط بين الطرحين يصبح المثقف القارئ للواقع جيدًا في حيرة من أمره، فهل يقف إلى جانب الأنظمة العربية التي عملت كثيرًا على ترويضه، أم يساند المخططات الغربية الهادف لصناعة شرق أوسط جديد على مزاجها، التي جاءت تحت شعار الحرية والتحرر، والربيع العربي. وبالطبع إن الحياد في هذه المسألة غير ممكن فكيف يُحايد صاحب القضية! في هذه الفوضى من الصعب بل من المستحيل وضع النقاط على الحروف، والحق إنها أزمة المثقفين العرب بعامة، ولا تقتصر على "الفيلسوف"، فأصبح المثقف العربي مصابًا "بالشيزوفرينيا". وإني أعرف العديد من المثقفين على شاكلة الفيلسوف. 

يقول الفيلسوف في الفصل الثاني عشر في حواره مع الزعيم:
“صنفت أمريكيا المتطرفين الذين تدعمهم بالإرهابيين، وأوحت بتصنيف كل من يدعمهم بالإرهابي..”. هذا يعني أن مفهوم الإرهاب غير واضح، تُحدده أمريكيا متى شاءت، ويمكن أن يُصبح الإرهابي بين عشية وضحاها ثائرًا أو العكس، فهي المتحكم الأقوى في سياسة العرب وأحوالها.

وأثارت الرواية قضية قليلة الطرح في الأدب الفلسطيني، وهي الدروز في الداخل المحتل واضطراب هويتهم الوطنية، وذلك من خلال شخصية” حمزة الزوزني” الجندي الإسرائيلي الذي حاول اغتيال الفيلسوف في لندن، وقد جرى حوار بينهم حول أصل الطائفة الدرزية ومؤسسها، وكانت لفتة ذكية من الروائي إعطاء هذا الاسم للجندي فهو اسم المؤسس والمنظِّر الأول للدروز، وخلال الحديث يسأل الفيلسوف الجندي عن معرفته بمن يحمل اسمه، فتبدو معرفته محدودة، وهذا يعني أنه يجهل، إلى حد ما، تاريخه، وبالتالي من السهل التغرير به وأمثاله. وعلى النقيض تمامًا تذكر الرواية مجموعة من الشباب الدروز الذين فضلوا السجن على الالتحاق بالجيش الإسرائيلي.

الحق إن الرواية تحدثت بجرأة عالية في الدين والسياسة والجنس، بل يمكننا القول إنها اخترقت التابوهات، أولها الجنس من خلال علاقة بطل الرواية” إبراهيم” بالإسرائيلية “تسيبورا”. وهذه الجرأة ليست من باب الإثارة كما يبدو من القراءة الأولى للرواية، بل لها أبعاد تُقرأ بتمعن، ومن ذلك كلام تسيبورا للفيلسوف:” منذ اليوم الأول وأنتَ تحتلني، كان لا بد من تذويبك بين نهدي لأتخلص من سطوة احتلالك، والآن، يمكنك الالتحاق بزوجتك يا زميلي العزيز”. إن النهود، دائمًا، وهنا بالتحديد، إشارة إلى كبرياء المرأة وعظمة أنوثتها، ونلاحظ استخدام ألفاظ قاسية نحو: احتلال، سطوة، تذويب. فهذه العبارة، ومن دون ربطها بتفاصيل الرواية، لا تنم عن الحب، ولا حتى عن رغبة طبيعية في ممارسة الجنس، بل تميل إلى الانتقام، أو كأنها تريد أن تكسر حواجز كثيرة بينها وبين الفيلسوف رغبةً في ترويضه. وإذا قرأنا شخصية “إبراهيم بشارات” الفيلسوف نعرفُ أنه رجل ذو هيبة ووقار، وهذه الممارسة كفيلة بكسر أنفه، لا سيما أنه استدرج إليها عن غير إرادة منه.
إن هذه العلاقة واضحة، لها تفاصيلها في الرواية أما علاقة ملكية وعوشة فهي إضاءة خفيفة أو طُعم يرمي به الروائي لقرائه، إنها علاقة مريبة. مليكة فتاة يهودية مغربية تلتقي مع عوشة الخليجية في لندن، عوشة يبدو أنها شاذة جنسيًا فتحاول التقرب من مليكة خلال ليلة مبيتها في بيتها فتقول مليكة:” طبعت قبلة على فمي حين التقينا في غرفة الجلوس…وفي حوارها مع عوشة” لا تطلبي مني مشاركتك السرير مرة ثانية..”.

الآن نلاحظ: تحاول عوشة الفتاة العربية( الشاذة) إقامة علاقة مُحرمة وغير طبيعية مع مليكة اليهودية المغربية، التي لا تعرف كثيرًا عن "إسرائيل" يبدو ذلك من حديثها مع الفيلسوف، ولشذوذها بُعد آخر وهو صداقتها مع "حمزة" الجندي الإسرائيلي المخول باغتيال الفيلسوف إبراهيم بشارات(الفلسطيني) في لندن، ويفشل الاغتيال بفضل صاحب مطعم الواحة" أبو علي". هذه أحداث الرواية كما هي أما أنا فأحب قراءتها على أساس رمزي، وهو: عوشة تمثل العربي المطبع مع الإسرائيلي( والتطبيع علاقة شاذة) أما محاولة اغتيال الفيلسوف في لندن فهي ترمز إلى محاولة الصهاينة إنهاء القضية الفلسطينية بإذن الغرب لا سيما بريطانيا، وهذه أحداث تاريخية معروفة. وفشل الاغتيال على يد عربي لبناني" أبو علي" يعني أنه لا ينقذ الفلسطيني إلا أخوه العربي. أما مليكة فهي تمثل الفرق بين الديانة اليهودية والفكر الصهيوني.

ثانيًا- الهامش (العتبات النصية):

إن العتبات النصية مبحث طويل في النقد الأدبي، ولا أحبذ تحويل هذه القراءة إلى دراسة أكاديمية معمقة، وعليه سأقرأ هوامش الرواية من غلاف وعنوان وعناوين فصول في ضوء فهمي محاولًا التحرر من مناهج النقد ومصطلحاته، فهذه القراءة في المقام الأول موجهة للقارئ غير المتخصص.

الغلاف والعنوان

يُعد الغلاف( والعنوان) عتبة مهمة ومدخلًا لفهم النص الأدبي وإثرائه بدلالات جديدة، وهو أُولى العتبات التي تستوقف القارئ في محاولة للربط بينها وبين العنوان، وهذا يحتاج إلى قارئ صاحب ذائقة وخبرة فنية عالية، قارئ إيجابي يفهم الدلالة المباشرة ويُثريها بتأويلات مبتكرة في الإطار العام للنص.

الغلاف في “رقصة الفيلسوف” جاء باللونين الأبيض والأسود في دلالة إلى الانقلاب الجذري في الموقف، فالأبيض والأسود نقيضان تمامًا، وإن الأقنعة في المنظور العام تدل على التغير والتبدل والخبث، وهي هنا كذلك، إلا أننا نلاحظ في القناع الأسود يظهر اللون الأبيض داخل العيون والفم، وفي الأبيض يظهر الأسود، وهذا يُشير إلى الاضطراب الداخلي، ويتوافق مع الرسم المحكم للشخصيات في الرواية، العارية تمامًا أمام القارئ، فالروائي أظهر الشخصية في جميع حالاتها، فحين تكون تتحدث في الخير يستطيع القارئ بسهولة معرفة النية الحقيقية، والعكس.

العنوان الأساس: رقصة الفيلسوف، والعنوان الفرعي: خفوت وهج الدهشة. فالرقصة هي حركة جسدية سريعة ومستمرة، وحين نضيف إليها “الفيلسوف” تُعطينا دلالة جديدة، وهي الرقص الفكري والتلون السياسي. وأعتقد أن كل من تصل إليه فكرة الرواية يفهم العنوان على هذا النحو، أما العنوان الفرعي” خفوت وهج الدهشة” فهو بحاجة إلى تفكير نوعًا ما، مع أن الرواية ذكرت العبارة في أكثر من موضع إلا أننا سنغض طرفًا عن ذلك، ونقرأه في ضوء الفكرة العامة للرواية: آخر جملة في الرواية يقول المبعد في رسالته للفيلسوف” لقد رقصت طويلًا أيها الفيلسوف وآن لك أن تتعلم الدبكة” وأنا أقرأ العبارة: ” لقد أصبح كل شيء واضحًا أيها الفيلسوف، وآن لك أن تتعلم طريقة أخرى”. بمعنى أن كل شيء في بدايته يكون قمة في الدهشة، ومن ثم تقل دهشته إلى أن يصبح عاديًا وواضحًا، ونحن القُرّاء عشنا الكشف الفكري مع الفيلسوف.

عناوين الفصول

إن الروائي اشتغل بشكل مميز على عناوين الفصول، التي تميزت بأنها خُلاصة الرواية، فاختار من كل فصل أكثر عبارة تُعبر عن جوهره واتخذ منها عنوانًا. وهنا سأناقش بعض العناوين التي أعتبرها جزءًا من المسكوت عنه في الرواية.

“لا بد من القيام بحركة ما، ربما حضر الدواعش للاستماع إلى الموسيقى”.

يتواجد الزعيم وحاشيته في الصحراء للسهر ومعهم راقصة شرقية غير عربية، يتخوف الجميع من حضور الدواعش. فيقول الفيلسوف: “ربما حضر الدواعش للاستماع إلى الموسيقى.” وهذا يعني أنهم بشرٌ عاديون يمكن أن يعودوا إلى فطرتهم. فيقول أحد الساهرين متعجبًا: “فقد حضروا لاعتقادهم بوجود راقصات وساهرات، واستدرجتهم رائحة الفروج والسبي.” في النهاية نلاحظ عدم وجود دواعش إلا في عقول الساهرين وأن الراقصة تتقن فن الرقص الشرقي مع أنها غير عربية، ولعلنا نستطيع القول إن الحفلة تمثل الشرق والراقصة تمثل الغرب الذي يعرف ذلك الشرق تمامًا، فيدخل عقر دارهم يتحكم فيهم كما يشاء، ويوجه عقولهم واهتمامهم إلى شيء آخر، إلى الوهم، وهو الدواعش.

“لا تأمن يا سيدي لصاحب فكر ديني إذا حكم، فأصحاب اللحى الطويلة التي تتجاوز قبضة اليد لا يؤمنون بالمشاركة الديمقراطية، وإن آمنوا فإلى حين، إلا إذا قررت تبنيهم أو الانضمام إليهم”.

الإسلام السياسي يتخذ من الدين وسيلة لتمرير أهداف خبيثة “فالغاية تبرر الوسيلة” وقد تكون الغاية ألعن من الوسيلة أيضًا، هذا الفكر أشد من الدكتاتوريات، لا يتجاوب مع الآخر المختلف إلا في حالة قرر دعمه، أو الخضوع له بالسمع والطاعة.

“أنت تنتظر أن أجيبك على سؤالك الذي يقول: ( ماذا تشعر حين تكون في وطنك؟) اسمع يا صديقي، لا توجه هذا السؤال لفلسطيني لأن الإجابة لا تقبل الفلسفة، إنها قصيدة لم تكتب بعد..)”.

الوطن هو ذلك الحلم الذي طالما يُطادر المغترب، فالإنسان بلا وطن كالطائر بلا أجنحة، كالطفل بلا أحلام. هذا التساؤل مقلق جدًا، والإجابة لا تتحقق بالتنظير بل بالاختبار، فإن الوجود في الوطن يشبه الحب لا تعرف مذاقه إلا في البُعد.
الروائي يرفض” الفلسفة” في الإجابة عن هذا التساؤل لأنه قطعًا مرتبط بالشعور، ويرى أنه من المستحيل معرفة حالة شعورية دون اختبارها وتجربتها، فالشاعر يعرف لذة القصيدة بعد كتابتها، وهنا تدخلَ وعي “الشاعر المغترب”، والمغترب شاعر بطبعه.

ختامًا:

وقعت الرواية في (٢٨٠) صفحة من القطع المتوسط، وقسمت إلى (١٥) فصل اتخذ كل منها عنوانًا يُعبر عن مجمله، وكان للروائي أنور الخطيب فلسفة خاصة في اختيار العنوان تقوم على إيجاز الفكرة، ولهذا وضع أغلب عناوين الفصول على الغلاف الخلفي للرواية.

تُركز الرواية على المتغيرات السياسية في الوطن العربي بعد فوضى الربيع العربي، ولمّحت كثيرًا إلى دور الغرب في صناعة الشرق، ووهم العرب في التقدم والازدهار. مع ثقل الموضوعات التي طرحتها الرواية إلا أنها جمعت بين الحُسْنَيين في الأدب: المتعة والفائدة، فكانت من حيث البناء الروائي متكاملة الأركان إضافة إلى متعة السرد، فالفلسفة والفكر والتساؤلات ذائبة خلف جماليات الرواية، يستطيع القارى غضَّ الطرف عنها وأخذها على محمل المتعة، أو إضاءة المسرح على الفيلسوف الراقص فيشغل باله جدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى