ثقافةمقالات

رواية “ناريا” أسطورة ملحمية ذات أبعاد معاصرة


رواية “ناريا” أسطورة ملحمية ذات أبعاد معاصرة

بقلم: هادية شفيق

لم يعد سهلًا كتابة رواية في زمن التنافس بين الروايات العربية والمترجمة. أن تمسك بالقارىء منذ الصفحة الأولى إلى السطر الأخير، هو التحدي الذي تواجهه الرواية المعاصرة.

هو الشغف بالقراءة، وغواية رائحة الكتب، ما قادني إلى رواية “ناريا” للكاتب حسن علي أنواري، الصادرة عن دار أبجد. وقد أفلح الكاتب ،بسلاسة غير مصطنعة، في إيقاظ حاسة الفضول عند القارئ منذ البداية.

السرد التصاعدي:

تنطلق الرواية من مشهد درامي سريع إنما مؤثر وحزين ، يذكرنا بسقراط الحكيم الذي فضل الموت على الصمت. مشهد الإعدام الرهيب للحكيم “إيليم” يستحضر إعدام الحلاج ، بل يستحضر كل الذين اغتيلوا ليضيئوا الطريق.

هذا هو دأب الحاكم المستبد، كتم الأصوات التنويرية ، في كل زمان ومكان ، ليبقى سيّدًا على العباد. إقصاء صوت العقل ومحاربة العلم من أجل إغراق مؤيديه في ظلمة الجهل فهو الظل الذي يحجب نور الشمس والحرية.

الملك الضلّيل:

بعد إسكات صوت الحكمة أو العقل ، تظهر الشخصية الرئيسية “نسحو” ، ابن الحكيم “إيليم ” ، الذي سيحاول ، خلال أحداث الرواية تخليص بلاده من هذا الظل المظلم الظالم.

أجل ، هذه حكاية “نسحو” وحكاية امرئ القيس وكل من يرث رسالة والده التنويرية ويؤمن بها ، فيحاول تغيير الواقع ، بألواح الحكمة التي يحملها ، حالمًا بالتدريس في بيت الحكمة في ناريا، فهرب من أجل الاستعانة بحكيم بيبلوس (جانو) . إنما الطريق مرصود ، فكيف ينجو؟

الرموز الدينية: 

بعض التفاصيل في الرواية لها رمزيات دينية، مثل: النفخ في قرن الثور مما يذكرنا بالنفخ في الصور وهو من أهوال يوم القيامة.

“ظل ديموزي في الأرض”: يذكرنا بالاعتقاد القائل إن السلطان ظل الله في الأرض. ويذكرنا بتعبير “دام ظلّه” الذي يستخدم في البيئة الدينية في إيران.

 

الصليب: من رموز الديانة المسيحية، علماً أنه استخدم قبل المسيح في حضارات كثيرة وكان أقسى طرق الموت الرومانية. ويذكرنا بصلب عبد الله بن الزبير وصلب الحلاج.

 

الكهف: إضافة إلى قصة أهل الكهف، يحيلنا مشهد اختباء “نسحو” في الكهف مع رفيقه “كادي” إلى لجوء الرسول (صلعم) إلى غار حراء مع رفيقه أبي بكر.

 

ولا يخفى أيضًا ، عبر أحداث الرواية، التركيز على دور الكهنة رمز السلطة الدينية التي تحمي الأنظمة الاستبدادية، فتلجأ إلى تعزيزها للسيطرة على عقول الشعب.

 

إلا أن هذه الأنظمة الاستبدادية تبقى في حالة قلق، فهي نشأت بالانقلاب على من سبقوها، لهذا تخشى أن تلقى المصير نفسه. فكما انقلب “ينماخو” على الملك كذلك يحلم رئيس القضاة “يلاخي” بالانقلاب على “ينماخو”. هو الجشع إلى السلطة والتعطش إلى الدماء.

لعبة الأسماء:

في الرواية تلعب الأسماء دور البطولة متقمصة الشخصيات ببراعة ودون مبالغة في عددها، إلى درجة أن القارئ يحفظها بسهولة ويألفها.

“ناريا”: العنوان المثير يتماهى مع النار. فهل هي نار الجحيم أم نار الثورة أم نار انبعاث الفينيق؟ أم ترمز إلى دولة معاصرة؟ أم هي النار التي سوف تصبح نورًا يمحو الظلم والظلام؟

عنوان المقدمة “أفول شمس الحكمة” يلمّح ولو لفظيًّا إلى شمس التبريزي.

هل “إيليم” مشتق من الألم أم الأمل؟

هل “نسحو” هو رمز ل”نصحو”؟ وهل “نيماخو” تحريف لاسم حاكم مستبد في زماننا هذا؟

هل “يلاخي” خيال أم ظل الحاكم الحقيقي؟ هل “نسرو” تصحيف ل”نصرو”؟ هل جانو ترميز للجان أو النجاة؟ هل “لامو” مشتق من “لا” التي صرخ بها كل الثائرين على الظلم؟ أم من التئام الجرح والشفاء؟

أسطورة معاصرة:

الإطار الأسطوري للرواية ليس مجرد ديكور لضرورة السرد بل هو الستار الذي تنعكس عليه قضايا الواقع السياسي والثقافي المعاصر.

لا يجد الحاكم المستبد وسيلة تطمئنه على دوام حكمه سوى إسكات صوت العقل والحكمة. لهذا قام بإعدام الحكيم “إيليم” وأتباعه.

خلال الرواية تتفاقم العقدة النرجسية للطاغية، كونه يعتقد أنه ظل الإله على الأرض (تمامًا مثلما يُدعى للحاكم دام ظلّه). ويعاونه الكهنة في تثبيت ملكه بكل الوسائل. هكذا، كما في كل العصور، كهنة الهيكل هم الجيش الحقيقي الذي يحمي الحاكم المستبد. يشغلون الشعب في حروب عبثية أو في طقوس شعائرية تستهلكه جسديًا وتأكل من قدراته على التفكير وبالتالي على التمرد.

الصراع الأزلي: 

الصراع الدموي بين بابل وناريا هو صراع الحضارات في كل العصور، آلة الحرب تطحن الجنود الحالمين بالنعيم في العالم الآخر. والنتيجة خراب شامل للطرفين،

بينما تكون الحضارات الأخرى ترتقي في طور البناء والرخاء.

والصراع في كل الأوطان بين الحرية والاستعباد، بين الفكر والجهالة، بين النور والظلام، بين التنويريين والظلاميين.

فهل ينتصر النور؟

لا بد من أن يكمل الطريق الشجعان مثل “لامو” ورفاقه.

تبدأ الرواية بالأفول “أفول شمس الحكمة ” وتنتهي بالشروق “بزوغ فجر جديد” بالرغم من النهاية المأساوية.

لا أدّعي أن “ناريا” تشبه “كليلة ودمنة” لابن المقفع ولا “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل… وإن كان طبيعيًا ظهور تأثير قراءات الكاتب خلال السرد.

هي رواية ملحمية بكل تفاصيلها السردية ومشاهدها السينمائية الحربية الأسطورية التي تدور في عدة بلدان، كأنما هي إلياذة مصغّرة.

زر الذهاب إلى الأعلى