ثقافة

سميح محسن يكتب: محمود شقير في تلك الأزمنة

محمود شقير في تلك الأزمنة

بقلم: سميح محسن

(سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ)؟!
كان هذا البيت من الشعر حاضراً في ذهن القاص والروائي الكبير محمود شقير منذ اقترابه من سنّ الثمانين. في كتاباته عارض الكاتب ما ذهب إليه الشاعر الجاهلي زهير أبو سلمى فيما يتعلق بالسأم، حيث ذكر مرات عديدة في أحدث إصداراته (تلك الأزمنة) أنّ حياته، وإن مرت فيها بعض حالات من السأم، إلا أنّه سعى لأن يجددها قولاً وفعلاً، وأن يواصلها بما لها، وبما عليها، حاملاً لواء التجديد فيما يفعل، وبما يكتب.

قبل بلوغه سنّ الثمانين في الخامس عشر من آذار (مارس) 2021 بدا الكاتب وكأنّه يسابق الزمن حتى بلوغه تلك الثمانين، وكانت فلسفة الحياة متقدمة لديه على فلسفة الموت، وكان همّه الطاغي أنّ ينجز المزيد من الكتابة والعطاء والإبداع، وكان له ذلك إذ أصدر في العام 2020 ست كتب هي: تلك المدن البعيدة، تلك الأمكنة، سلسلة حب الوطن (قصص للأطفال)، سلسلة الخالة مريم (قصص للأطفال)، ومغامرات مهدي وجمانة (قصص للأطفال) أيضاً. وفي عام 2021 أصدر ثلاثة كتب هي: القلق (قصص للأطفال)، أكثر من حبّ (رسائل محمود شقير وحزامة حبايب)، وحليب الضحى، وهي مجموعة قصص قصيرة جداً. وفي عام 2022 أصدر الكاتب إضافة إلى هذا الكتاب كتابين آخرين هما: بيت من ألوان، إسماعيل وتمام، وغسان كنفاني إلى الأبد، والكتابان الأخيران عبارة عن سيرتين روائيتين، الأول عن حياة الفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط وزوجته التشكيلية تمام الأكحل، والثاني عن حياة الشهيد غسان كنفاني (قرأت الكتاب الثاني ولم أقرأ الأول لعدم حصولي على نسخة منه حتى الآن).

تلك الأزمنة:
{{بعد سبع وخمسين سنة من الكتابة؛ إليكم كشف الحساب: “تشنّج في أصابع اليدين، تعب ودموع في العينين، انزلاقان غضروفيان في العمود الفقري، حرص على شرف الكلمة ووفاء، حياة بسيطة متقشّفة بلا ادعاء”}}. ص37 من كتاب “تلك الأزمنة”.

يُعَدُّ كتاب تلك الأزمنة الصادر حديثاً عن دار نوفل هو كتاب السيرة الثاني والأخير للكاتب الكبير محمود شقير بعد كتاب (تلك الأمكنة) الصادر عام 2020 عن الدار ذاتها، وهو الكتاب الثالث والسبعون للمؤلف عدا عن اشتراكه في إعداد ثمانية كتب أخرى وأربعة نصوص مسرحية، لذا فإنّه يُعَدُّ من أكثر كتابنا غزارة وتنوعاً في الإنتاج الثقافي، إلا أنّه في الوقت نفسه من أكثرهم حرصاً على الإبداع والتجديد. ورغم هذه التجربة الطويلة والعميقة لا يخفي الكاتب قلقه عند نشر أيّ مؤلَف جديد، ومعرفة مدى تقبّل المتلقي له. وأشار في أماكن عديدة في كتابه هذا إلى أنّه كان يعرض مسودات رواياته على عدد من الكتّاب والنقاد لإبداء آرائهم بها، وملاحظاتهم عليها، وإنّه كان يجري تعديلات عليها في ضوئها قبل دفعها للنشر. وفي اعتقادي أنّ قلق الكاتب على كتاباته، مهما بلغت مكانته، وعمق تجربته الإبداعية، وتشعبها في حياته، يُعَدُّ أمراً إيجابياً. وفي هذا التوجّه من كاتب كبير، وأستاذ ومبدع في حجم محمود شقير، رسالة منه لنا جميعا، وبخاصة للجيل الجديد منا، بأن لا نطمئن لما نكتب، ولا عيب في استمزاج آراء أصدقائنا قبل نشر نصوصنا.

تساؤلات مشروعة
هل للعلاقة الشخصية بين الكاتب والمتلقي تأثير ما في قراءة المكتوب؟! وهل يكون الحياد حاضراً في الكتابة عن المكتوب؟! وإذا كان المكتوب سيرة ذاتية للكاتب وعنه، هل تضيق مساحة هذا الحياد؟! أطرح هذه الأسئلة من أرضية علاقتي برفيقي وأستاذي محمود شقير.

قبل العام 1991 كانت معرفتي به هي معرفة قارئ بكاتب قصة قصيرة، وبعد عودتي إلى البلاد في أعقاب حرب الخليج الأولى التحقت للعمل في أسبوعية (الطليعة) المقدسية، وفي تلك السنوات كان الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب حالياً) يصدر مجلة (صوت الوطن) في العاصمة القبرصية نيقوسيا، وكان يرأس تحريرها الرفيق د. ماهر الشريف، ويشرف على القسم الثقافي فيها الرفيق محمود شقير، من خلال تلك المجلة ومساهماتي الشهرية في الكتابة والنشر على صفاحاتها بدأت خيوط العلاقة الشخصية بيني وبين الرفيقين العزيزين الشريف وشقير، وعن بُعد. وبعد عودة الرفيق محمود شقير إلى البلاد كلّفه الحزب برئاسة تحرير أسبوعية (الطليعة) خلفاً للرفيق خالد الذكر بشير البرغوثي، فعملت تحت رئاسته، وتعرّفت عليه عن قرب، واستمرت هذه العلاقة حتى الآن.

أثرت تلك التساؤلات لأنّ الحديث يدور في هذه الكتابة عن كتاب سيرة ذاتيه، وأنّ كاتب المقال يعرف كاتب السيرة عن قرب، يعرف صفاته وجانباً من مزاجه، وبعض التفاصيل عن حياته الخاصة، وهنا قد يتحول كاتب المقال من ناقد له (وإن لم أدع ذات يوم بأنني أمتلك أدوات النقد وشروطه) إلى فاحص ومدقق لما ورد فيه.

عودة إلى “تلك الأزمنة”
يقع كتاب “تلك الأزمنة” في مئتين وخمس وثمانين صفحة موزعة على تسعة فصول (أجزاء) وثلاثة ملاحق، وقائمة بعناوين إصدارات الكاتب. عنون الكاتب الملحق الأول بــــ “أمينة .. يوميات الألم والمعناة، وأورد فيه اثنين وستين يوماً من حالاتها التي دونها في دفتر يومياته، وتضمن الثاني قصة بعنوان “الغسيل” كتبها الكاتب في عمّان عام 1979، وأما الملحق الثالث فأورد فيه مقتطفات من نصوص كتبها أصدقاء وصديقات له احتفاءً ببلوغه الثمانين.
وفيما يلي سأتوقف عند بعض العناوين التي استخرجتها من هذه السيرة.

القرية .. الطفولة والمخزون
شهد الكاتب في طفولته مرحلة انتقال “عشيرته” ذات الأصول البدوية من البرية إلى القرية التي أقيمت على تخوم مدينة القدس، وشهد التطورات التي حدثت لها، والتي واكبت سنوات ما بعد النكبة الفلسطينية، وبالتالي جمعت تلك الطفولة بين هذه البيئات، وشكّلت مخزوناً ثرياً له انعكس بشكل أكثر جلاءً في روايتيه: “مديح لنساء العائلة”، و”ظلال العائلة”. ورغم سنوات إبعاده الطويلة عن البلاد، وتنقلاته وزياراته بين وإلى ما يزيد عن أربعين بلداً من بلدان العالم، إلا أنه ظل متمسكاً باللهجة القروية، وبل معتزاً بذلك.

أمينة والحضور الدائم
سمّى الكاتب ابنته أمينة على اسم عمتها التي فارقت الدنيا في عزّ شبابها تخليداً لذكراها وتعبيراً عن حبّه لها. وشاءت الأقدار أن تصاب الأبنة “أمينة” بمرض ضمور العضلات، فكانت الشخصية الأكثر حضوراً في هذا الكتاب. لقد كتب الرفيق محمود شقير عنها كأب وكإنسان، وسرد التفاصيل الكثيرة عن معاناتها، وتجنّد العائلة لرعايتها، وتلبية طلباتها على مدار الساعة. وتحدث عن الجهد الذي تبذله والدتها “أم خالد” التي تصل الليل بالنهار للقيام بواجبها تجاهها.

الموقف من المرأة:
يقودنا ذلك للحديث عن المرأة وموقف الكاتب الإيجابي منها وانتصاره لقضاياها، سواءً أثناء حديثه عن فضة “فظة” الوالدة، أو عن المرأة في روايتيه المشار إليهما سابقاً، أو في مجموعاته القصصية.

الأحفاد
أهدى الرفيق محمود شقير “تلك الأزمنة” إلى حفيداته وأحفاده، وأثناء الحديث عنهم في النّص الذي بين أيدينا كان “مهدي” الأكثر حضوراً بينهم كونه الأكثر ملازمة له. إن اهتمام الكاتب بالأطفال بشكل عام انعكس في عديد النصوص الأدبية التي كتبها خصيصاً للأطفال والفتيات والفتية كونهم الجيل الذي سيواصل الحياة على هذه الأرض.

القدس الحاضرة أبداً
كانت القدس حاضرة في هذا النّص طوال الوقت، في زمن الطفولة حيث كان يرافق والده المرحوم إليها، أو أثناء مرحلة المراهقة والشباب، قبل احتلالها وإبعاده عنها، أو بعد عودته إليها بعد غياب.

الأنانية والغرور
لعلّ من أجمل الصفات التي يتمتع بها الرفيق محمود شقير، رغم المكانة العالية التي يتمتع بها ككاتب ومثقف وإنسان، تواضعه الجم. كان لي شرف العمل تحت إدارته عندما شغل منصب رئيس تحرير أسبوعية “الطليعة” المقدسية. لقد تعلمت منه في تلك الفترة أجمل معاني التواضع ونكران الذات، وإن لم يعطِ الكاتب هنا تلك التجربة ما تستحقه في كتابه، وبخاصة أنّها كانت الأولى له بعد عودته إلى البلاد. في أكثر من مكان أشار الكاتب إلى موضوع الأنانية والغرور، وجاء في بعضها بشكل ساخر، ومن تلك المواقف عندما التقى بعدد من كبار السنّ في مركز صحي ووصفته إحدى العاملات بالوسامة، أو عند حديثه عن روايته للفتيات والفتية “أحلام الفتى الجميل.

الجرأة والصدق
يلمس القارئ المحايد الجرأة والصدق عندما يتحدث عن المرأة، وزمن الطفولة والمراهقة، وعندما يتحدث عن ناسه. لم يحاول تجميل أيّ مرحلة من مراحل حياته، وحتى عندما يتحدث عن أقرب الناس له يتحدث بمنتهى الصدق والعفوية. لقد تحدث عن أمينة ومعاناتها، وتحدث عن حفيده محمود الذي يعاني من بعض المشكلات الصحية، وعن غير ذلك من مواقف وأحداث.

وفي أماكن عديدة أيضاً تراجع الكاتب عن أراء كان قد أطلقها حول كتابات بعض الكتّاب كالرأي الذي أطلقه حول رواية الكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل “الشياح” التي رأى فيها أنها رواية “عادية” ثمّ عاد وأعطى رأيا مغايراً بها.

الواقعية الاشتراكية
يتحدث الرفيق محمود شقير عن نشاطه السياسي، وانتمائه للحزب الشيوعي، وشغله مناصب قيادية في الحزب، فهو ابن الفلسفة الماركسية ومدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب، وانحيازه الطبقي. وهنا أشار إلى أنّ انتماء أبنائه للأفكار التي انتمى إليها لم يكن كما يشتهي. وأشار إلى أنّ عصام تأثر في شبابه بأفكار حركة الإخوان المسلمين، وأنّ خالد أعاد التزامه بسياسة الحزب الذي ينتمي له عند تشكيل القوائم الانتخابية الحزبية إذ كان أحد مرشحي الحزب عن دائرة القدس.

وأما بعد
لا يمكن لمقالة كهذه أن تغطي ما سرده الرفيق، والكاتب الكبير محمود شقير في هذا الكتاب كسيرة ذاتية امتزج فيها الخاص بالعام، إلا أنّ هذه المقالة ما هي إلا محاولة لتسليط الضوء على بعض ما ورد في “تلك الأزمنة”.

زر الذهاب إلى الأعلى