ثقافة

شفيق التلولي: رحلة حياة بين دمشق وغزة في رواية نصفي الآخر 

شفيق التلولي: رحلة حياة بين دمشق وغزة في رواية نصفي الآخر

قراءة: مهند طلال الأخرس 

نصفي الآخر شفيق التلولي [رواية/نص سردي] لشفيق التلولي صدرت عن وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله سنة 2016، وتقع فى 181 صفحة من الحجم المتوسط، ولوحة الغلاف بريشة الفنان الفلسطينى السورى هيثم شملوني.

[الرواية/او النص السردي] تتناول السيرة الذاتية لكاتبها شفيق التلولي، ولن أخوض في ماهية النص وتصنيفه فتلك مهمة أخرى، فما يعنينا هنا هو عرض تقديمي يفي الكتاب حقه أولاً ويسهم بتقديمه للقراء ثانيا.

نصفي الآخر تتناول سيرة الكاتب بين شطرين او نصفين حسب وصفه؛ النصف الأول يتعلق بسيرة حياة الكاتب وطفولته في غزة، والنصف الثاني عن دمشق والتي أمضى الكاتب ردحا من الزمن بصفته التنظيمية والنقابية.

هذا الكتاب /النص كما اسمه جائت أحداثه موزعة مناصفة بين غزة ودمشق؛ وخلال تلك السيرة والمسيرة ينجح صاحبنا وبعين المحب والباحث عن الاسئلة التي تصنع الوعي والافق، وتطور المدارك وتبني المداميك تلو المداميك في سبيل حفظ سيرة وصيرورة الوطن… ينجح صاحبنا في تصوير واقعه وسيرته التي يتداخل فيها الخاص بالعام وهذا منبع اهمية كتب السيرة على اختلاف انواعها، ومن هنا بالذات تنبع اهمية هذا الكتاب.

تتلاحق الأسئلة وتزدحم بانتظار الاجابات..والتي تأتي وتنمو مع بطلها في سياق النص، ومع الأيام تبدأ مرحلة الإجابة عن الأسئلة المتراكمة، وهنا بالذات تبدأ مرحلة الوعي وبناء الذات؛ وقد يكون أهم تلك الاسئلة التي رافقت شفيق الطفل هي الواردة على أول صفحات الكتاب [ص ١٦ وحتى ١٨] وفيها يستذكر شفيق طفولته فيقول:” كل الاشياء تبدو في نظر الطفل كبيرة..البيت ، الشارع، الحارة، الحي، إلا في المخيم، فالصور مختلفة”،…:

فعلا هي كذلك وحتى الأسئلة في المخيم مختلفة، فهذا هو الطفل شفيق وتحت حكاية الجنازات الرمزية يسأل عن طقوس الموت ويسترجعها من ذاكرة الطفل ص١٧ ويسأل أباه على ظهر ص ١٨ “من بعد من يا أبي” فيجيب الأب بعد جمال عبدالناصر، ستلعب بنا الدنيا من بعده يا ابني…يسأل الطفل شفيق، ومن يكون عبدالناصر، ويجيبه الأب بعد أن يربت على كتفه: ستعرف عندما تكبر ياولدي…

تتوالى الأحداث ويكبر معها فتى غزة [شفيق] وتكثر الأسئلة وتبدا أولى الاجابات على سؤال الطفولة الأول، من بالنعش؟ [عبدالناصر] ومن هو؟، ولماذا هذه الجنازة الرمزية؟ ولماذا كل هذا البكاء والعويل؟، تأتي الاجابة مع مرور الايام والصفحات ويتحصل صاحبنا على اولى الاجابات العالقة على ظهر ص ٤٦ تحت عنوان الفصل الموسوم صح النوم، ذلك الفصل الذي اتسعت فيه شوارع المخيم بفعل الجرافات الاسرائيلية ودخل التلفاز أول بيوت المخيم، وسنحت الفرصة لمشاهدة مسلسل صح النوم… ومشاهدة أمور وبرامج أخرى كثيرة منها جنازة عبد الحيم حافظ وهنا بالذات يستحضر شفيق الشاب من ذاكرته صورة الجنازة الرمزية المحفوظة في ذاكرة شفيق الطفل، وهنا بالذات تكمن المقاربة والمجاز والرمزية الأهم في الكتاب.

وهنا بالذات تحضر صورة الطفولة المسلوبة ومجازها ودلالتها الموجعة، حالها كحال العروبة التي اغتيلت في مهدها بموت عبد الناصر.

في هذا الكتاب ينجح التلولي بالتقاط أبرز الصور عن طبيعة الحياة الاجتماعية والنضالية والسياسية التي رافقت التلولي في مسيرته في زقاق المخيم، ونجحت ذاكرته باختزان هذه المشاهد، ليقرر التلولي بعد مضي فترة من الزمن ان يغمس يده في ثنايا الذاكرة ويسترجع منها ابرز صور تلك المحطات، وكأن التلولي بفعلته هذه يدق جدران الذاكرة التي تكدست عليها المأسي وكادت ان تغلبها سطور النسيان.

هذا الكتاب جائت موضوعاته موزعة على 45 عنوانا، وبحيث تناول كل عنوان فكرة أو موقف او حدث ما علقت بالذاكرة وحان وقت استرجعاها، تماما كعملية التحميض التي تمر فيها استخراج ومنتجة الصورة، وهي عملية استغرق جيلنا وقتا للخلاص منها، وبعد خلاصه منها اكتشف ان لاصور له فيها، ولا صور بحوزته تغطي تلك المرحلة رغم انها الاهم والاجمل والاكثر غنى بالاحداث؛ وهذا الكتاب بتلك [الصور الكتابية] قد يكون سببا رئيسا في محاولة تعويض البوم حياتنا الناقص والمشرد والمبعثر بين ثنايا الزمن وصفحات الايام، ذلك الالبوم الذي لا تحتويه ادراجنا، ولكن التلولي نجح في ان يعيد التقاط الصورة مجددا وبث الحياة فيها من جديد وهذه تحسب للتلولي.

عند استعراض عناوين فصول الكتاب 45 يستنبط القاريء سيرة ذاتية ومجتمعية ووطنية جديرة بالتوثيق والاطلاع، والاهم ان هذه العناوين 45 جائت مجتمعة لتكوّن البوم الصور الخاص بشفيق التلولي وعائلته وحتى وطنه وبمسيرته الصاخبة والمفعمة والمزدحمة بالاحداث على مر الايام…

ذلك الألبوم الذي نرى أنفسنا فيه [وهذا قد يكون أجمل ما فيه] وهذه تحسب لشفيق وأمثاله؛ فالكاتب الجيد هو الأقدر على التقاط تلك اللحظات وإعادة بثها من جديد على شكل قصيدة أو رواية أو قصة أو عمل أدبي أو فني ذي مضمون إنساني ووطني يبقى أثره مع الأيام ولا يزول.

عند استعراض عناوين فصول هذا الكتاب 45 يمكن لكل منا أن يضيف صورته وسيرته تحت هذا العنوان؛ وهذا ما حدث معي بالذات عند قراءة العناوين التالية: جنازات رمزية، البلدوزر، الورد الأخرس، مدفع رمضان، المصابيح الزرقاء، صفيح البلاد، صح النوم، هلال وصليب، اغتيال المطر، بين بيروت وغزة، هذا ما جناه علي أبي، دخان وياسمين، موقد كانون، عرس تحت منع التجول، عين وشهيد، رصاصة في جيب حنين، زقاق الوطن، في عين العاصفة ، زيت وزيتون، عينان وبندقية… وبعدها تأتي صور النصف الاخر[دمشق] والتي يخلو البومي من أي ذاكرة جميلة تجاهها…

زر الذهاب إلى الأعلى