ملفات اليمامة

عباس مجاهد: الحقيقة المحمدية.. المفهوم والنشأة والأبعاد في التصوف الإسلامي 

الحقيقة المحمدية؛ المفهوم والنشأة والأبعاد في التصوف الإسلامي

عباس عبد الحميد مجاهد/ رئيس هيئة نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني

كثير من الأوساط الفكرية في الساحة الإسلامية، مثل الفقهاء والمتكلمين وبعض الفلاسفة لم يأخذوا بفكرة الحقيقة المحمدية، وناقشوها؛ ووصفها البعض بكونها شعبة من شعب الغلو الذي وقعت فيه الصوفية، وهي مزيج من الغلو في رسول الله، والتأثر بالفلسفة اليونانية في تقريرها لأول مخلوق، إلا أن هذا المبحث سيتناول مفهوم الحقيقة المحمدية وفق الخطاب الصوفي لا غير، ولن يتطرق إلى ما اختلف فيه الباحثون في الأصول المرجعية للحقيقة المحمدية، وما آراؤهم بشأن نسبتها المذهبية والدينية، فلن تقف الدراسة عند الجدل العميق بين الباحثين، فهناك كثير من اختلاف المقاصد وتنوع الحجج.

ويتميز الخطاب الصوفي بالرمزية العالية في التعبير عن أفكاره، فعلى القارئ قراءة ما بين السطور في محاولة للوصول إلى مقصد الصوفي، ومن كثرة المصادر والمراجع التي عادت لها الدراسة وجدت أن الصوفي يخفي معارفه وحقائقه، ومعاناته الحقيقية نتيجة اتساع العوالم التي يكتشفها بالذوق والمشاهدة وضيق اللغة على أن تكون وعاء لتلك الحقائق.

فالتجربة الصوفية هي تجربة دينية، وخطابها لا يبتعد عن الخطاب الديني، ولكنها تجنح إلى درجات من الخصوصية السلوكية والمعرفية التي يضطر معها الصوفي إلى استعمال الإشارة والرمز، فالخطاب الصوفي خطاب إشاري.(عزام، ٢٠١٠، ٨٣)

وإن المدافعين عن الحقيقة المحمدية من المتصوفة تمسكوا بكثير من الآيات القرآنية التي تنعته بالنور، يقول تعالى: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ” (المائدة: ١٥)، واستدلوا على مفارقة النور لعبد الله بن عبد المطلب والد محمد صلى الله عليه وسلم بعد دخوله بالسيدة آمنة بنت وهب، فالنور كان غرة بيضاء بين عينيه، ثم اختفى، فقد استوى في أحشاء أمه وهو النور ذاته الذي أضاء لها. ( كيفتش، د.ت ، ٦٦) ، يقول محمود سالم: ” هو أن هذا النور أودع في صلب آدم عليه السلام، ولا زال ينتقل حتى انتقل إلى والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يريدون الاقتراب من قيمة النسب التي حرص عليها العرب، واعتزوا بها، وأعطوها عند النبي الكريم نوعا من القداسة” (سالم محمد، ١٩٩٦ ، ٢٤٧)

وترتبط فكرة النور المحمدي بنظرية الإنسان الكامل عند المتصوفة (عبد الرحيم، ٢٠٢٠، ١١)، والحقيقة المحمدية باعتبار النورانية؛ هي النور الأول في عالم الظهور، وقد تجسد هذا النور بهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكما تمثل الطين وتجسد بهيئة الإنسان، تمثل النور الإلهي بهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرى المتصوفون نوره من نور العزة، ونور الأولياء والمؤمنين من نوره، ولذلك استحق التفضيل على باقي الخلق، وهو ما يجعل علاقته بالوجود عميقة ومباشرة (قراوزان، ٢٠١١، ع١١، ١٢٨-١٢٩)، وإذا كانت الحقيقة المحمدية قد حازت التقدم في الجدول الملكوتي الغيبي للخلق والنشأة، فلا أدعى من أن نقترب من ملاحظة نوعية الخلق وصفته، وكيفية تمام تعديله وتسويته، فالصوفية تعتقد وإن تأخر وجود جسده على جميع الأنبياء، فإنه مقدم عليهم باعتباره الحقيقة الأولى، وهذه الحقيقة تجمع في أركانها حديثا عن الله ونشأة الخلق، ومحمد والأنبياء ورسالاتهم، وخلق آدم ثم البشرية، ثم الورثة من الأنبياء والأولياء، ولعل هذه الحقيقة مستمدة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله لما سأله عن بداية الخلق، فأخبره عن خلق النور المحمدي، وما انبثق عنه من عوالم. (عبد الرحيم، ٢٠٢٠، ١٥)، “واشتقت من هذه النظرية فكرة تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع أنبياء الله ورسله، فالنبي في عالم الغيب أول الأنبياء، إن كان في عالم الشهادة هو آخرهم” (سالم محمد، ١٩٩٦، ٢٤٨)

فآدم عليه السلام أب لنا في التكوين الجسماني، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أب لنا في التكوين الروحاني، فإذا كان الأولياء يتفاضلون في مراتب الكمال فمنهم الكامل والأكمل، (زيناي، ٢٠١٨، ع٢١، ٢١٤) وعليه: “لم يتعين أحد فهم بما تعين به محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الوجود من الكمال الذي قطع له بانفراده فيه، شهدت له بذلك أخلاقه وأحواله وأفعاله وبعض أقواله، فهو الإنسان الكامل، والباقون من الأنبياء والأولياء والكمل صلوات الله عليهم ملحقوق به لحوق الكامل بالأكمل، ومنتسبون إليه انتساب الفاضل إلى الأفضل”. (الجيلي، ١٩٩٧، ٢١١)

وهذا بينه الحلاج، يقول: “أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم همته سبقت الهمم ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم”(الحلاج، ٢٠٠٢، ١٦٢)، وما قدمه الحلاج في كتابه الطواسين فيما يتعلق بالحقيقة المحمدية هو تبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الموجود الأول، والأقرب لله تعالى، وأشرف الكائنات، ووجوده سابق على الوجود المادي، وفيه رؤية شاملة للخلق والنوع الإنساني، والذات الإلهية، وما مدى ارتباط اللاهوت بالناسوت.

وتبحث الحقيقة المحمدية عن مجموع من العلاقات؛ كعلاقة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخالق، وبينه وبين الولي أو القطب، وعلاقته بالخلق والنشأة، والروح والصورة والبرزخ، وغير ذلك من العلاقات، وهذا المعنى ورد في نظرية الخلق عند المتصوفة التي تقوم على ثلاثة أركان؛ المبدأ الحق، والخلق، والواسطة بين المبدأ الحق وخلقه، والنقطة المركزية في الموضوع تتمثل في بيان طببعة الواسطة، فالنظرية تنصب على طبيعة الواسطة الوجودية بين الله تعالى وخلقه، فالوجود ليس مرتبة واحدة، وإنما هو مراتب متفاوتة، وكلما اقترب الوجود من مصدره الذي هو الله، كان أشد، وكلما ابتعد كان أضعف. (الشيباني، ٢٠١٤، م٩، ع٣٢ ، ٣)

والحقيقة المحمدية مسماة بالعقل الأول والقلم وبالحق الذي قامت به السموات والأرض، والباء، وعرفت الحقيقة المحمدية بالباء، لأن الحق تعالى واحد فلا يصدر عنه إلا واحد، فكان الباء أول شيء صدر عن الحق تعالى، وهي ألف على الحقيقة، وحداني من جهة ذاتها، وهي باء من جهة مرتبتها، فهي ظهرت في المرتبة الثانية من الوجود. (الدوسري، ٢٠٠٧، ٨٢)
وقد عدّ ابن عربي أن القطب مبدأ الوجود، وأصل الحياة والتكوين، وواسطة الخلق، ومنبع العلم، ومفيض القدرة على التصرف (حلمي، د.ت، ٣٦٢)، فالقطب هو القائم في كل دور بخلافته العظمى ووراثته الكبرى، وهو اليد الفاعلة، فالقطب هو الرحى الذي تدور حوله حقائق الوجود، فقد عبرت الصوفية عن الحقيقة القطبية بالمركز ومثلوا لها بالنقطة التي في فؤاد القطب المحمدي، وعليه فالقطب عندهم هو الإنسان الكامل، وإمام الزمان، ومظهر النبي، يقصده السالك، ويرونه مرآة صادقة لذات الله، فالنبي يأخذ علوم الشريعة من الله تعالى من غير واسطة، والأقطاب يأخذون العلوم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعلت الصوفية الأقطاب والأولياء خلقا نورانيين، منفلقين عن أنوار محمد صلى الله عليه وسلم. (بدوي، ١٩٧٦، ١٩٦، قراوزان، ٢٠١١، ١٣٧)

وعليه فإن الحقيقة المحمدية تتعلق بذات النبي، وتنحصر في شخصه العليه، وهذه الحقيقة ممتدة لخارج ذاتها لتتصل بالوجود والإنسان، ومن خلال ما تتبعته الدراسة فإن الحقيقة المحمدية برزخ البرازخ، والمقام المحمود، والظل الممدود، والجامع لحقائق الوجود باعتباره وحدة كاملة، وهي التي تمثل العلاقة بين العالم الروحاني المجرد والواقع المادي المتحققة فيه، فالروح أسبق في الخلق من الجسد، فالحقيقة المحمدية صورة روحانية وجسدية تختلف عن باقي الصور والمخلوقات، لأن العالم بأسره وفق نظرة الصوفيين من روح محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الروح صاحبة المقام الأول.

ومن أسماء الحقيقة المحمدية؛ الحق، وحقيقة الحقائق، وكنز الحقيقة والحقيقة الكلية، والهوية الأزلية، وحقيقة الحقائق، والبرزخ الأعظم، وأصل العالم، وأصل الوجود، وبذرة الوجود، وسر الأسرار، والنور الأول، ونور الأنوار، وروح الأرواح، وشمس الوجود، والنسخة الجامعة، والنسخة الكاملة، والمرآة الكبرى، واللوح المحفوظ، والكلمة، وآدم الأكبر، والكون الجامع، والقلم الأعلى، والعنصر الأعظم، والدرة البيضاء، والمادة الأولى، والروح الكلي، والأب الأكبر، والعقل الأول… (عبد الرحيم، ٢٠٢٠، ١٢-١٣، وقراوزان، ٢٠١١، ١٢٦)

قائمة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم
– بدوي، عبد الرحمن، ١٩٧٦، الإنسان الكامل في الإسلام، ط٢، الكويت، وكالة المطبوعات
-الجيلي، عبد الكريم، ١٩٩٧، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، تحقيق: أبو عبد الرحمن صلاح عويضة، ط١، بيروت، دار الكتب العلمية.
– الحلاج، قاسم محمد عباس، ٢٠٠٢، الأعمال الكاملة، جزء الطواسين، ط١، ييروت، رياض الريس للكتاب والنشر.
– حلمي، محمد مصطفى، د.ت، ابن الفارض والحب الإلهي، د.ط، القاهرة، دار المعارف.
– الدوسري، عائض بن سعد، ٢٠٠٧، الحقيقة المحمدية أم الفلسفة الأفلوطينية، ط١، بيروت، المكتب الإسلامي.
– سالم محمد، محمود، ١٩٩٦، المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي، ط١، دمشق، دار الفكر.
– عبد الرحيم، رائد، ٢٠٢٠، نظرية الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية في الخطاب الصوفي وأثرها في شعر المديح النبوي في العصر المملوكي، ط١، نابلس، الشامل للنشر والتوزيع.
– عزام، محمد مصطفى، ٢٠١٠، الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل، ط١، بيروت، مؤسسة الرحاب الحديثة
-كيفيتش، علي شود، د.ت، الولاية والنبوة عند الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ترحمة: أحمد الطيب، د.ط، المغرب، دار القبة الزرقاء.

المجلات
– زيناي، طارق، ٢٠١٨، إشكالية الإنسان الكامل في الفكر الصوفي، قراءة في المفاهيم والتجليات، مجلة منتدى الأستاذ، ع٢١، المدرسة العليا للأساتذة آسيا جبار قسنطينة.
– الشيباني، محمد حمزة، ٢٠١٤، الحقيقة المحمدية في التراث الصوفي، مج٩، ع٣٢، الكوفة، مجلة مركز دراسات الكوفة.
-قراوزان، ليلى، ٢٠١١، الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي، مركز البصيرة للبحوث والاستشارات والخدمات التعليمية، ع١١.

زر الذهاب إلى الأعلى