ملفات اليمامة

غسَّان كنفاني-أَبي الَّذي يصغرني الآن بعشرين عاماً

غسَّان كنفاني-أَبي الَّذي يصغرني الآن بعشرين عاماً

بقلم: أحمد أبو سليم/ شاعر وروائي 

حين يموت الأَب في سنٍّ مبكَّرة نبكيه أَكثر لأَنَّنا نعرف أَنَّ ثمَّة مسارات في أَقدارنا قد تغيَّرت، فهو ذلك الشَّخص الَّذي تستند حياتنا على حياته بطريقة أَو بأُخرى، وكلَّما تحرَّك حرَّك معه مسارات أَقدارنا وغيَّر احتمالاتها، فهل يمكن لأَب ما-روحيٍّ- أَن يمارس الدَّور نفسَه بموته لا بحياته؟

إنَّهم أُولئك المعلِّمون الَّذين يتركون خلفهم إرثاً هائلاً لا ننفكُّ نرضع منه أَبجدياتنا الَّتي تؤسِّس للكثير من مسارات حيواتنا بقصد أَو بغير قصد، ومنهم غسَّان كنفاني نفسه.

ما الَّذي كان يميِّز غسَّان كنفاني عن غيره من الكتَّاب من وجهة نظري؟ وما الَّذي أَخذته عن غسَّان، وما زلتُ أُمارسه وأَعتزُّ بأَنَّ غسَّان علَّمني إيَّاه؟

هل يمكن القول إنَّ قلق غسَّان في لحظة ما انتقل لي؟ ربَّما، لكنَّ الأَمر أَيضاً أَبعد من ذلك وأَعمق.

إنَّ أَهمَّ ما ميَّز غسَّان بنظري هو قدرته على أَن يكون مثقَّفاً، وأَعني هنا بمفهوم الثَّقافة كمصطلح، وكما ورد لغة في قاموس أكسفورد، لا كما ورد كمعنى في لسان العرب، أَي باعتبار الثَّقافة سلوكاً وليس كمَّاً ما من المعرفة، حيث يصبح المثقَّف في هذه الحالة -وربَّما يندرج ضمن هذا الإطار تعريف غرامشي للمثقَّف العضويِّ- يصبح المثقَف جزءاً من حالة الوعي العام، يؤثِّر فيها، ويتأَثَّر بها، وذلك بالذَّات ما جعل غسَّان قلقاً، فهو الَّذي لم يكتب روايتين متشابهتين، وهو الَّذي كتب أَمَّ سعد ردَّاً على نفسه بعد كلِّ ما حقَّقته رواية ما تبقَّى لكم من صدى واسع لدى النقَّاد، والمثقَّفين، وهو الَّذي كان مشبعاً بالأَسئلة الوجوديَّة الكبرى، بدءاً من قصَّة موت سرير رقم 12، وليس انتهاء بالأُرجوحة، والمسرحيَّات الثَّلاث: الباب، وجسر إلى الأَبد، والقبَّعة والنَّبي، لكنَّه مع ذلك آثر أَن يبقى قريباً بنبضه من المخيَّم، والشَّارع في جلِّ أَعماله الأُخرى.

لقد تعلَّمت من غسَّان كنفاني أَنَّ الإنسان قضيَّة، وهو في سيرورته كان قضيَّة أَيضاً، فهو الَّذي طابق بين ما يكتبه، وما يفعله، ومن قال أَمس في ورقته إنَّ غسَّان لم يحمل البندقيَّة كان مخطئاً، فغسَّان حمل البندقيَّة أَيضاً لمن لا يعلم ذلك، ومن عاصروه يعرفون ذلك حقَّ المعرفة، فدفع حياته ثمناً لمواقفه كلِّها دفعة واحدة.

ما ميَّز غسَّان كنفاني هو الصِّدق، الصِّدق مع الذَّات، ونحن في هذا الوقت بالذَّات، زمن السُّقوط كما سمَّاه غسَّان بنفسه، بأَمسِّ الحاجة إلى هذا الصِّدق، حيث غلب على المثقَّفين النِّفاق، ومحاولة إرضاء كافَّة الإطراف، رغم تناقضها وهذا مستحيل ضمن أَيِّ منطق، فأَنتَ إمَّا أَن تكون مع قضيَّتك، بكلِّ ما يحمل ذلك الأَمر من تبعات وخسارات وأَثمان، وإمَّا أَن تكون مع نفسك، تبحث لذاتك عن موقع ولو على حساب القضيَّة والحساب العام.

إنَّ المثقَّف بنظري لا يهادن أَبداً لأَنَّه تمثُّلٌ للاسترتيجيِّ، وحين ينغمس المثقَّف في اليوميِّ يصبح أَكثر سوءاً من الجميع.

لقد شكَّل غسَّان كنفاني حالة ثقافيَّة عامَّة، وكان صاحب قضيَّة، فلم يتوان عن البحث عن الفنَّانين والكتَّاب والمثقَّفين الَّذين يخدمون قضيَّته ويقدِّمهم للعالم، وتلك هي الأَخلاق النَّبيلة الَّتي يتمتَّع بها كاتب صاحب قضيَّة.

حمل فلسطين، فحملته، وما زالت تحمله، كتب كلَّ ما كتب لها، وبحث في التَّفاصيل الدَّقيقة لشظايا الهويَّة وكان ذا نظرة ثاقبة.

نحن لا نقتل آباءنا…بل ننزلهم منَّا تلك المنزلة الَّتي يستحقُّونها، إنَّها العنقاء الَّتي ترفض إلاَّ أَن تنتفض من الرَّماد، لتحرير فلسطين، وأَعني هنا كما كان يعني غسَّان: كلَّ فلسطين من النَّهر إلى البحر.

جزء من شهادتي التي قدمتها في مؤتمر الرواية الفلسطينية-مؤتمر غسان كنفاني

زر الذهاب إلى الأعلى