مقالات

قراءة تفكيكية لقصيدة “أحبك” للشاعر أنور الخطيب.. بقلم: عباس مجاهد

قراءة تفكيكية لقصيدة “أحبك” للشاعر أنور الخطيب

بقلم: عباس عبد الحميد مجاهد

رئيس نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني 

غلبة العاطفة والخيال

القصيدةُ حافلةٌ بالعاطفةِ، وعاطفته دفعته للتعبير عما يختلج في خلده على شكل انفعالات مختلفةٍ، فالعاطفة بدأت نحو شخص يحاوره، لتشكل عاطفةً ذاتيةً هي عاطفة الحب، وتتصاعد هذه العاطفةُ لتصبح عاطفةً أدبية تقوم على عنصري الجمال والخيال الإنساني، معتمدةً لتحقيقها على الصدق الفني، يقول:

في هودج الأبالسة

نجر قوس الكمان على ظهور النجوم.

والشاعر الفذ هو الذي يحافظ على ثبات العاطفة واستمراريتها في النص الأدبي، فلا نجدها تتراجع في تركيب وتعلو في آخر، ليس هذا فحسب بل استطاع الخطيب في نصه هذا إثارة العواطف المختلفة في نفوس المتلقين، واستطاع بخياله نقلهم إلى عوالم مختلفة، يقول:

 

قلت: ماذا بعد

قالت: سنذهب في اللاجهات

أنا لن أعود

أنت تواصل البحث عني في أوتار العود.

فالمقطع السابق فيه غلبة للخيال، لكن فيه مشاهد ملفته لو قمنا بتفكيكها؛ مشهد الغياب (لن أعود)، ومما يؤكد على مشهد الغياب في النص (سنذهب نحو الجحيم معا، نمضي إلى فانتازيا الحياة، ستأخذنا الكوابيس، في هودج الأبالسة، نمضي إلى الطين، فأنا حيث أنت تكون)،ومشهد مواصلة البحث؛ لكن البحث في اللامكان المعهود وهو أوتار العود، ومما يؤكد مشهد اللامكان الحقيقي(جنة العشق، ظهور النجوم، موجة مطلقة، تعد الجهات في أصابع قلبك، في زرقة العدم).

فالنص تجربة شعورية عميقة صورها الخطيب لتصبح ملكا للقارئ مستعدا للانفعال بها، والقارئ للنص بتمعن لأكثر من مرة يرى فيه تجربة شعورية عميقة فيها كثير من إزاحة المفردات عن معناها المعجمي، وهذه المفردها تثير حركة الذهن في النص.

فاعلية العقل في النص

امتلك الخطيب الحرية الكاملة ليسمي ما يشاء كما يشاء، فالفرس بوذي، وتفاحة الجسد تقطف، ورغيف الجسد يُشتهى…، وهذا الفاعلية تحتاج من الشاعر مرتكزا واقعيا يتكئ عليه ليحلق في خياله الشعري، فهو استخدم ألفاظا ملموسة من حدود الكون، ولكنها ذات فاعلية في انفجاراتها؛ (القمح غير القمح، والتفاحة غير التفاحة، والهودج غير الهودج، والزرع غير الزرع، والصلاة غير الصلاة، والذهاب غير الذهاب…)، فاستطاع عقل الخطيب تحوير الأساليب والتنويع في الطرائق، فاستطاع في نصه حذلقة المفردة والتلاعب بالجملة الشعرية؛ لصنع الدهشة، ومما زاد الدهشة فيه تداخل السرد بالشعر، لتفعيل العنصر الدرامي في النص، والنص الذي يعتمد على آلية الاندفاع الفلسفي، أو الفكرة المغمسة بدهشة الجملة الشعرية فهو نص لا يهتم بالشكل الخارجي بقدر اهتمامه بالعمق التأويلي، فالعقل والدراما والعمق التأويلي وما فيه من إزاحات، والدهشة منحت النص طاقة كبرى للوصول إلى اللذة الشعرية، فالنص إذا كان عاطفيا بالأساس، فهو قائم على وعي الشاعر وليس على انفعاله اللحظوي، فهو ليس نصا معاشا بقدر أنه نص فلسفي تأملي، وفيه علامات دالة على معنى المفردة الواحدة داخل النص في سياقها النصي لا المعجمي.

الذات في القصيدة

غرّب الخطيب الذات في القصيدة، وكأنه يدرك أن الذات غير قادرة على مواجهة الوجود، وإن قال قائل: إن ثنائية الذات والجماعة حاضرة في النص؛ الذات في قلت، وأفتح، وأزرع…، والجماعة في نجر، ونكتب ونصير…، نقول له: علت كفة الجماعة، وهذا يقودنا إلى القول: إن الخطيب يحب الآخر، وهو لا يعبر عن وجوده النفسي وعواطفه الخاصة بل هو منتم للجماعة، وهو ليس من دعاة النرجسية والأنفة العالية، فهو يعلي من شأن الجماعة، ويرفض الذاتية والهروب من واقع الجماعة، فهو يجمع ورود الفضيلة، ويتصدق بالقبلات، ويحب المضي مع الآخر إلى فانتازيا الحياة…

الغموض في النص

كل كلمة في النص قابلة للنقاش، فلم يستخدم الخطيب المفردات النادرة، ولكنه جعلها تراكيب نادرة (غزالة العري، أصلي أنا على لا أحد…) فجمله أوجدت حاجزا ضخما بين الشاعر والقارئ الأولي، فالقارئ الأولي يعاني من الغموض النسبي، والسؤال: هل الخطيب خالف القواعد اللغوية والنحوية؟ أقول: لا، وأقول: هي التي أوصلتنا إلى نهاية المطاف إلى المعنى المرجو فهمه من خلال تفكيكها، فنصه يحتاج إلى القارئ الفذ النهم العالم بأساليب الشعر…

دقة المعاني

القصيدة دقيقة التعبير، واختار الشاعر لها أنسب الألفاظ لآداء المعنى المراد، المعاني فيها رقيقة ولطيفة، وفي غاية الترتيب والتركيز، فنجد في المعاني الروح المبدعة والإجادة بالدقة الوصفية المعتمدة على الخيال، ومزجها بشفافية العاشق ورسم المعنى بصوره المثلى، ليقرأها القارئ، وكأنه يعيش فصولها وأحداثها، فالمعاني لفاهمها لامست الوجدان.

ونص القصيدة:

قالتْ: أحبكَ

قلتُ: ماذا بعدُ!

قالتْ: سنذهبُ نحو الجحيم معاً

على فرسين بوذيينِ

نجمع ورد الفضيلة، أو نتصدّق بالقبلاتِ علينا

ونمضي، إلى فانتازيا الحياة؛

تقطف أنتَ تفاحةً لي

أفتح قمحي أنا لكْ،

ستشتهي رغيفاً ساخناً

تقلّبه على نار الهدوء

ونصنع أرجوحةً، على سرير النشوء،

قلتُ: ماذا بعدُ!

قالتْ: ستأخذنا الكوابيسُ إلى جنّة العشقِ

في هودج الأبالسة،

نجرّ قوس الكمانِ على ظهور النجومِ

تصيرُ أنتَ مذنّباً مذنباً

وأنا، غزالةَ العري والحنينِ

فنمضي إلى الطين؛

أزرع فيكَ هشاشتي

تَنبُتُ أنتَ من حَشاشتي

ونكتبُ فيهما شعراً للميتين،

يقرؤه الراحلون إلى الأرض اليباب

ولا يقولون، آمين

قلتُ: ماذا بعدُ!

قالتْ: نَصيرُ لا شيءَ في الأشياءِ

لا أحدَ في الجموع،

تصلّي أنتَ على موجةٍ مطلّقةٍ

أصلّي أنا على لا أحد،

قلتُ: ماذا بعدُ!

قالتْ: سنذهبُ في اللاجهاتِ

أنا، لن أعودَ

أنتْ، تواصلُ البحثَ عنّي، في أوتار عُودٍ

كلما وجدْتَني، عانَدْتني في المقامِ

ثم تعود،

تَعُدُّ الجهاتِ على أصابع قلبكَ

ثم تغنّي لكْ،

فأنا، حيث أنت تكونُ

وأعني، في زرقة العدم،

أيها الملعون

….

زر الذهاب إلى الأعلى