ثقافة

قراءة في ديوان “مُزُون السندريلا” لفدوى أبو ظاهر

قراءة في ديوان “مُزُون السندريلا” لفدوى أبو ظاهر

د. عبد الرحيم حمدان

 مقدمة:

 صدر الديوان الشعري الأول للشاعرة الفلسطينية فدوى أبو ظاهر،  في سنة ٢٠٢١م في طبعة أولى عن دار الكلمة للنشر والتوزيع غزة – فلسطين، ويحوي الديوان (105) مائة وخمس صفحات من القطع المتوسط، وهو ديوان شعر طبع طبعة أنيقة، وهو يحمل اسم “مُزون السِّندريلا”، يتوزع الديوان على (39) تسع وثلاثين قصيدة، تتدفق بسلاسة وبلغة شعرية رقيقة ومأنوسة.

اختلفت تلك القصائد في عناوينها، كما اختلفت في موضوعاتها وأفكارها وفي طولها وقصرها، وقد تصدر الديوان إهداءٌ قصير في كلماته. 

والشاعرة صوت أنثوي متميز، لها حضور قوي ومتفرد، شاركت في العديد من اللقاءات الشّعرية المحليّة، وديوانها الشعري يندرج تحت نوع الشعر العمودي الذي تتسم قصائده بوحدة الوزن ووحدة القافية كأمثالها من شاعرات العصر الحديث وشعرائه، وبصمت الشاعرة اسمها بقوة في المشهد الشعري في الحركة الثقافة على المستوى الوطني، فهي تمتلك صرخة امرأة، مسكونة بحب الوطن، متطلعة إلى تحرير أرضها، ودحر عدوها، وهي أنثى مثقفة ومثقلة بهموم وأوجاع الزمن المتحطم.

أولاً – الأبعاد الأساسية للنصوص الشعرية في الديوان:

تعددت موضوعات القصائد في الديوان وتنوعت، وعلى الرغم من هذا التنوع المثري في الغرض الشعري، فإن مجمل القصائد قد غلب عليها بعدان رئيسان هما:

  1. البعد الوجداني الذاتي:

  تردد في الشعر الوجداني لديها عددٌ من الأفكار والرؤى التي تحدثت فيها عن الحب والحزن والاغتراب والرحيل والغياب، والشكوى من سلوكيات أفراد المجتمع، وسلبيات هذا الزمن، كل ذلك في عاطفة متأججة، وتجليات صوت الأنثى.

   إن البعد الوجداني الذاتي هو المحور الأساس الذي تمركز حوله الديوان، وقد تبدى ذلك جلياً في عتبة العنوان الذي يحمل بعدًا دلاليًّا ونفسيًّا وجماليًّا، فالعنوان هو المفتاح الذهبي الذي يدلف المتلقي بوساطته إلى جسد القصيدة وردهاتها. فقد جاء في أول قصائد الديوان بعنوان (أنا فدوى)، أبرزت فيها أبعاد شخصيتها الأدبية:

أنا فدوى وسيدة النساء    

وكم قيس يُطوُّقة فضائي..!

وأُحيي عمق أوردة بحرف     

 بحور الشهد بعض من عطائي..

قوافي الوجد أنسجها قصيداً         

فيبصر كحلها دان وناء..

أنا العنقاء ما لي من شبيهٍ         

حروفي للحزاني كالدواء

أريج الورد في خديَّ يشدو        

وصوتي سحر أنغام الغناء..

وقد تجلى البعد الوجداني في عنوان الديوان، فــ (مُزُون) التي هي فدوى اسم علم مؤنث عربي الأصل، يدلّ على فتاة رقيقة وحساسة، تمتلك قلباً طيباً وعطوفاً على الآخرين، وفدوى التي هي (سندريلا)، وهو غير عربي المحتد، يحمل اسمها سمات متعددة ودلالات مختلفة منها: أنها بنت طيبة القلب، رقيقة المشاعر، هادئة الطباع، مطيعة تحب والديها، وتحنو عليهم وتبرهم، وتعمل كل ما تستطيع لإسعادهم، تحب تبادل الزيارات وتصل رحمها، حنونة عطوفة تحب مساعدة الآخرين، وهي بنت غاية في الرقة والاحترام تحترم الكبير وتوقره وتحنو علي الصغير، وتعطف عليه، وهي فتاة نشيطة ممتلئة بالحيوية والتفاؤل وحب الحياة، وهي ذات شخصية قوية حكيمة متأنية في اتخاذ القرارات شخصية موهوبة تحب رسم المناظر الطبيعية والمناظر الخلابة. ويتجلى للمتلقي التماهي بين الاسمين؛ الأمر الذي يمنح النصوص الشعرية لوناً من الوَحدة والتماسك في الدلالة

إنَّ ثمة (أنا) تطغى بكل دلالات هذه اللفظة المشعة من رؤىً ومعانٍ على أجواء الديوان ونصوصه، وقد تأسست هذه الدلالة على نمط من البناء استند على دالة الأنا؛ لتعبر عن الذات القوية المتحدية والمتفتحة على الحياة.

أنا العنقاء ما لي من شبيهٍ      

حروفي للحزاني كالدواء ( ص 7)

يشعر المتلقي أن الذات في هذه الأبيات قد تعاظمت، وتشكلت في كيان جديد، بلا حدود تمنعها من السفر في الاتجاهات  الأخرى، فهي معتدة بنفسها، لها كيانها المستقل، وشخصيتها القوية المتفردة، حياتها متجددة حية كالعنقاء، فالشاعرة تؤمن أنه من رحم الألم يولد الأمل، وتنتصر الحياة بضيائها وبهجتها على الدمار والفناء والظلام، تقول:

أنا القناص فاحذر رصاصي

أنا الرامي وأفتك في دهاء

أنا بلقيس ما بلغت عروشي

دلاءكم اطالت في الرشاء( ص 8).

وتقول في قصيدة أخرى بعنوان “لقد أوتيت سؤلك”: 

فأحسن أو تسيء ، لا فرق عندي

أنا ما عاش من يزري كناني

أنا بحر ولم ينزح بمدٍ

فهيا اهجر فذا عين الصواب( ص 11).

والشعر من منظار الشاعرة وسيلة تعبير عن المشاعر والأحاسيس التي تعتمل في صدرها وتمور في قلبها:

كتبت الشعر تبيــــــــــــــــــــــــــاناً لنزحي

أنا ما ضاق صـــــــــــدري عن جواب

وقد عبرت الشاعرة بصدق وأمانة عن شعورها بالغربة والوحدة والشوق إلى الحبيب، ففي قصيدة بعنوان “ما لي خليل!”:

مالي خليلٌ بعدكم واغربتي!

بين الدياجي مرتعي والفرقة..

عنَّى فؤادي بعدكم ماذا جرى؟

كنتم كغيث في روابي روضتي..

كنتم ربيعاً في خلايا روحنا

صرتم بمنأى فاستبدتْ وحدتي

 ودّاُ شرينا يا نديمي في الهوى

حتى رحلتم ثم حلت ظلمني..

هذا غمامي ممطر شوقاً لكم

ما مِنْ خيالٍ زارنا في ليلةٍ (الديوان ص ٧٠ ).

     وفي نصوص شعرية أخرى يجد المتلقي الشكوى المرة من أخلاق أهل هذا الزمان، والقيم الخلفية التي يتصفون بها، وفي قصيدة “ليت شعري!!” تقول الشاعرة:

إذا رُمت سعدا لقيتُ الزمانَ

کليثٍ يكشِّر من كل نابِ

ثلاثون حولاً ولا حول عشنا

ولا حول لي في نوال طِلابي

دنوتُ من الناس والقلبُ طفلٌ

فقلبي أذاقوهُ سوء الشرابِ

وعاشرتهم واكتشفتُ أخيراً

بأني أعيشُ بدنيا كغابٍ

  فلا طِيبةٌ عندهم لا شعورٌ

وليس مُصابٌ كهذا المصابِ

غريبٌ وحزني لديَّ مقيمٌ

محافلُ دمعٍ تغطي ثيابي..!

 وليتَ أتاني يزور ويمضي

كضيفٍ ثقيلٍ مضى عن تُرابي     .. (الديوان ص : ٦٤ ).

يجد المتلقي في هذه القصيدة تعبيراً وجدانياً عميقاً ينقل تجربة إنسانية مليئة بالعواطف: ما بين حب وشوق وحزن وقهر وظلم تبوح بها الشاعرة للمتلقين من خلال تعبير شعري أنيق، وتجود بأفكار وأحاسيس الذات الشاعرة، فهي ترغب في الانعتاق من ذاتها المكبلة، ومن قيود المجتمع التي ما زالت تحاصرها وتحدُّ من إبداعاتها، وقد نسجت قصائدها في قالب من البوح الفطري النابع من تجارب حياتية وخواطر وأفكار ذاتية.

  1. البعد الوطني:

في هذا البعد تتحدث الشاعرة عن الصراع المحتدم بين الحق الفلسطيني في مقاومة المحتل وبين قوى الشر المتمثلة في الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية والمقدسات الإسلامية، ويظل الأمل قوياً عندها في دحر هؤلاء المحتلين وتحقيق النصر عليهم، كما تناولت جهود بعض الأدباء الفلسطينيين من أمثال (غريب عسقلاني) شيخ الفن القصصي الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية، والإشادة بجهوده في الارتقاء بالحركة الثقافية في فلسطين، والإشارة في قصيدة إلى مدينة (بيروت) عاصمة الشعب اللبناني، تقول الشاعرة مفتخِرةً بالإنسان المقاوم الذي يضحي بدمه من أجل تحرير وطنه، في قصيدة لها بعنوان: “ترجل”: 

ترجلْ فوق عاصفتي

وصب الرعب في النار..

  توسطْ عمق أوردتي

وخُذْ من دمي الجاري..

ومن عظمي فخذ حطباً

وأشعل كن جبار…

ولا تحفل بمن خذلوا

ومن ينهاك عن ثار.

وشب الأرض واحرقهم

بعزم مثل إعصار)… الديوان ص: 13 ).

وهكذا يندغم عندها البعدان الذاتي الوجداني والبعد الوطني ويتماهيان ليعبرا عن تجربة إبداعية صادقة.

لقد وعت الشاعرة رسالة الشعر ودلالة الكلمة وأثرها، فقاربت في قصائدها قضايا أمتها وشعبها وعروبتها وعالمها المليء بالأحداث والظلم والقهر، فيجد المتلقي في ديوانها شعراً مليئاً بالثورة والغضب والتحدي.

في قصيدة “بلادٌ أُحبُّ..!”

فلسطين مرعاك روحي ودمي

لأجلك قد طاب عندي الحمامُ

ويا كحل عيني ورَمشي ونبضي

وأنت الثـــــــــــــــريا لِيَخْزَ اللئــــــــــــــــــــــــــامُ               (الديوان ص : ٩٥).

وهكذا يندغم الخاصُّ بالعام، فلا يختلف رأي الشاعرة وشعورها، عن آراء الآخرين ومشاعرهم تُجاه الأحداث والوقائع.فالعنوان يحمل بعدًا دلاليًّا ونفسيًّا وجماليًّا، وبالتّأويلِ، فإنّ مزون اسم علم مؤنث يدلّ على البذل والعطاء والنّماء والحياة.

إن نظرة متأملة في قصائد الديوان تهدي إلى القول بأن الشاعرة نحتت بروحها النقية تفاصيل الحب وعذاباته من حنين وفقد واغتراب وهجر إلي عتاب وتعلق بجمالية شعرية متوقدة، تدق جدران القلب وتستوطنه، تفتخر وتعتز بمنبتها الطيب، وتدافع عن فلسطينيتها ضد المحتل الغاصب، وتحارب بكل ما أوتيت من قوة الظلام وسطوة النزعة الذكورية التي تسعي لقتل روح الأنثى.

 

ثانياً –  أبرز المرتكزات الفنية التي تجلت في الديوان:

استطاعت الشاعرة بما تمتلك من اقتدار شعري وأدوات شعرية أن ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، فتجلت في شعرها بعض السمات الفنية على النحو الآتي:

أ – العاطفة:

تستحق الشاعرة بما تمتلكه من تجربة قيمة أن يدرس شعرها ويحلل، وأن يستخرج ما فيه من قيم تعبيرية وجمالية،  ففي مقطوعاتها نزعة جمالية، وشعرها متدفق من منبع وجداني.

تمثل العاطفة مصفاة طبيعية تمر من خلالها عناصر التعبير الفني المكونة للشعر، فتمتزج بها ، وتضمخ بعطرها، فلن ينفصل الشعر عن العاطفة، كما لا تنفصل الأم عن أمومتها، فكلما تمكنت شعرية النص من وجدان الشاعر أينعت العاطفة على لغة القصيدة، وصار لها منزلة ومكانة في وجدان قارئها وفكره،  وكل ذلك لا يتأتى إلا من عاطفة جيّاشة، ومخيال خصب، تقول في قصيدة لها بعنوان:  “لج الهوى”:

لجًّ الهوى بترائبي ومدامعي

وتسومني بهواك كل مواجع..

ليل طويل كم أقضَّ مضاجعي

وأجن في صدري أنين تلوعي..

ومحافل الأشواق عندي لا تعي

لغة سوى أن الحنيـــــن ملوعي…

فحبال وصلك من دون تمنُع..

لا شيء يسعدنا سوى تبقوا معي(الديوان:61 ).

   لقد سجلت الشاعرة  اللحظة المعيشة بإحساس غامر، ولهفة عارمة بصدق القلب، وسمو الروح إلي ما هو أجمل في حياتها، فهي تحمل بين ضلوعها مباهج الحياة، وهموم الوطن والإنسان، وقيم المحبة والجمال.

والشعر الذي أفضله – أنا المتلقي – هو ذلك الشعر الذي قال عنه النقاد العرب القدامى: إنه الشعر الذي تحته ماء ورواء، وهم يقصدون بذلك الشعر الذي يعبر عن عاطفة صادقة، إنه  الشعر المنساب بالأحاسيس المتدفقة بعيداً عن جفاف الفكر، ونضوب المشاعر، ذلك أن الشعر ليس إلا تعبيراً عن عاطفة صادقة وأحاسيس منسابة بما تحمله من حزن أو فرح، والتي تخرج من خلال الموسيقى والخيال، فالشعر ينقل المتلقي من الظلام الحالك إلى النور الوضاء، إنه لغةُ صورٍ، يجسِّد ما لا يستطيع المتلقي وصفه، ولا ريب في أن ما يميز شعر الشاعرة هو قدرتها على تمثيل الحياة بواقعها المأزوم وهمومها وصعوباتها.

     وانطلاقاً من مفهوم أن النص نظام، له عناصره، وأن هذه العناصر ترتبط بعلاقات لتؤدي وظيفة واحدة، هدفها نقل الرسالة إلى المتلقي، فإن سائر هذه العناصر كانت تستمد قوتها وصبغتها من منبع هذه العاطفة، فجاء شعرها صادقاً صدقاً واقعياً، وصدقاً فنياً في آنٍ، ومن هذه الرؤية يمكن أن ينحو شعرها في نصيب كبير منه منحىً جمالياً، بعيداً ما أمكن ذلك عن التكلف والتعمل، وتحميل النص أكثر مما يحتمل.

لقد جاء شعرها يزخر بالمشاعر الفياضة، والعاطفة الصادقة النابعة من أعماق الوجدان، ويمتاز بنوع من التدفق العاطفي، ويظل محافظاً على رونقه وجماله المؤثر في النفوس، كما أن المتلقي يلمس من خلاله تلك الرقة الأنثوية، إضافة إلى القوة والعزيمة التي تؤمن بها وتصر على انتصار الحق، وانقشاع الظلمة.

ب – توظيف التراث:

 استحضرت الشاعرة التراث العربي في الكثير من مفرداتها وصورها الشعرية، واستدعت عدداً من الشخصيات التراثية والإيقاع الموسيقي للشعر العمودي والقافية الموحدة في سائر قصائد الديوان. وهذا يشي بعمق ثقافتها، واتساعها وتعلقها بالتراث العربي وتقاليده الثابتة، إذ جنحت لتوظيف التّراث؛ لتضفي على عملها الإبداعي أصالة وعراقة، إذ يشكل التّراث نوعاً من امتداد الماضي في الحاضر، وتغلغل الحاضر بجذوره في تربة الماضي الخصبة، فضلاً عن كونه يمنح الرؤية الشعرية لوناً من الشمول والكلية.

ويعدَّ التّراث منجمَ طاقاتٍ إيحائية لا ينفد له عطاءٌ، فمعطياته تمتلك القدرة على الإيحاء بأحاسيس لا تتوقف، وعلى التأثير في النفس البشرية، ما ليس لأي معطيات أخرى يستغلها الشّاعر؛ لأن هذه المعطيات التّراثية تعيش في وجدان النّاس وأعماقهم.

ومن تأثرها بالنص القرآني تأثراً مباشراً؛ قولُها في قصيدة لها بعنوان: “لقد أوتيت سؤلك”:

لقد أوتيت سؤلك في اقتضاب

فأوصــــــــد دون حبي كلَّ باب   ( الديوان: 10 ).

فقولُ الشاعرة السالف مستمدٌ من قوله تعالى، وهو يخاطب سيدنا موسى -عليه السلام- )قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَٰمُوسَى( ( طه :36 )، ووظفت -أيضاً- نصوصاً من الحديث النبوي الشريف ففي قولها:  

وتطوى بعد نشر من ضلوعي

تعض على النواجد في غيابي. (الديوان: ص ١2).

فنصها الشعري السابق مأخوذ من الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: “عليكُم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء من بعدي عُضُّوا عليها بالنواجذ”   .

وفي قصيدة لها بعنوان “ليت شعري”، وهي عبارة شعرية تكررت في غير ما قصيدة تراثية، تقول الشاعرة موظفة هذه العبارة التي ترددت في مطالع كثير من قصائد التراث، يقول الشاعر الإسلامي مالك بن الريب:

أَلا لَيــــــــــــــــــتَ شِعري هَل أَبيــــــــــــــــــــتَنَّ لَيلَةً

 جَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا

 وثمة شعر للشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة التي يقول فيها مفتخراً :    

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا     

وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ       

تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

ولهذه المعلقة صداها: مفردات وإيقاع نغمي وقافية، تقول الشاعرة في قصيدة لها بعنوان: “غلبنـاكـم ..!”

غلبناكم وحاشا أن نلينا

وأخرسنا جموع الخاطبينا..

فلا قول لكم عندي سواه

رصاص من زناد العازمينا..

وحيث سيذكر اسمي فلتقوموا

ملوك الأرض نحن الحاكمينا   ..

ظهور الموت نعلوها كراماً ب

ساح الحرب نحن العاكفينا

وأذهلنا الملايين الحيازي

ولقنا الإباء الغافلينا ( الديوان ص: ١٧ ).

يحسُّ المتلقي أنَّ نَفَسَاً وروحاُ وجدانيا،ً وإيقاعاً نغمياً في الوزن والقافية تسري في أوصال القصيدة، فالمتلقي في أثناء تتبعه لأثر تأثر الشاعرة بالمعجمِ الشعري، سواء في المفردة أم في التركيب اللغوي يعثر على مفردات تراثية ترددت في أشعارها، وهذا التكرار نابع مع حفظها للتراث الديني والأدبي. وقد استمدت بعضاً من نصوصها الشعرية من التاريخ العربي تقول:

أنا قبل القرون علت مُزوني

ومن عاد ومن سام سحابي(الديوان: ص ١٠).

وكما استثمرت الشاعرة بعض نصوصها من معطيات التراث العربي الأصيل في خطابها الشعري سواء أكان هذا الاستغلال صريحاً أم تلميحاً، فإنها استثمرت بعض مفردات التراث في نصوصها الشعرية وحمَّلتها معانيها ورؤاها ومشاعرها وأحاسيسها، وهذه الأساليب التراثية مكتنزة بطاقات إيحائية تضفي على النص الشعري لوناً من الجلال والقداسة الدينية والدلالات العميقة، ويعد مثل هذا العمل إشارة أكيدة على أن الشاعرة المعاصرة على اتصال حميم بتراثها العربي، ويتجلى في هذه الأساليب عملية الاختيار والانتقاء لهذه الأساليب دون غيرها لقدرتها على حمل المعنى المراد التعبير عنه، وبما تحمله من إيحاءات ودلالات غنية، وقدرتها الكبيرة على أداء وظيفتها النفسية والجمالية والإيحائية، ويدرك المتلقي أن توظيفها للتراث في النصوص جاء منسجماً مع سائر عناصر بناء القصيدة، ولم يأت معزولاً وملصقاً بجدار النصوص الشعرية.

ج – النزعة السردية:

استغلت الشاعرة آليات الفن القصصي من سرد ووصف وصراع في تغذية عروق قصائدها؛ الأمر أعانها نوعاً ما على التخلص من المباشرة والميوعة العاطفية والتقريرية، والاتجاه إلى الموضوعية، والتكثيف، وإن وهنت في شعرها نزعةُ اللجوء إلى توظيف الحوار الدرامي بنوعيه: الخارجي (الديلوج) والداخلي (المنولوج)، وتوظيف تقنية القناع، وهاتان التقنيتان تقربان شعرها من البناء السردي، فحرمت بذلك شعرها من الحركة الدرامية، وما تولده من تدفق وتنوع، فضلاً عن تعدد الأصوات الشعرية الذي يدفع إلى التجديد والتنوع، ففي هذه الحال يندغم في الصورة صوتان، أحدهما: صوت المحاور الأول، والثاني صوت صاحب الحوار الثاني، سواء أكان هذا الحوار يحيل إلى التاريخ، أم إلى التراث الديني، أم الثقافي، أم الأسطوري. علاوة على تجنب المباشرة والتقرير والاتجاه بالشعر صوب التعبير، لكنه أيضاً يلقي الضوء على تجربة الشاعرة، وفي ذلك كشفٌ عن خفايا المواقف والمشاعر التي تمر بها.

ففي قصيدة بعنوان: ” ذكـريـات” يلتقي القارئ بأسلوب السرد القصصي، تقول في تلك القصيدة:

وحينَ تهيج الذكريات وتنتشرْ

تنير دموعاً تستجيب فتهيز…

يفتت عظمي حين أبصر طيفه

ولله حمدٌ أنَّ عظمي مستتر…

أداري لهيباً ليس ينفَد،ُ حرهُ

فتحرق أحشائي كأنيَ في سقر..

أمرُّ بأقوامي ولا أحداُ أرى

تعثَّر أقدامي فما بيَ من نظر

قصفتَ ظهور الشوق حين هجرتنا

قصصتَ جناحي، قلْ فكيف بهم أمُز.؟ (الديوان ص ٣٨ ).

وفي نهاية المطاف، يمكن القول بإن الشاعرة فدوى أبو ظاهر استطاعت من خلال ديوانها ( مزون السندريلا) أن تبين للمتلقي أنها تمتلك أدوات شعرية ناضجة، وأنها قادرة على أن تنقل للمتلقين تجربة شعرية ذاتية فريدة، ذات مستويات متنوعة في عالمِ قَصيدة الشعر العمودي بأسلوب راقٍ: شكلاً ومضموناً، ودلالات تعبيرية وإيقاعات ذات بعد إنساني تحمل صوراً شعرية إبداعية ماتعة، وتسافر بالمتلقي إلى رحلة للتأمل والتأويل، وسبر ذاته، وما تخفيه من حقائق في كينونته، والتي لا تنبعث إلا بالحب والحنين والشوق والأمل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى