مقالات

قراءة في رواية أم سعد للروائي غسان كنفاني

قراءة في رواية أم سعد للروائي غسان كنفاني

بقلم: نائل يوسف الشبراوي

لو نظرنا بدايةً إلى عنوان الرواية ألا وهو “أم سعد”، نجد أننا أمام جملة اسمية، “أم” وهي مبتدأ مرفوع وهو مضاف، و “سعد” مضاف إليه، وخبر المبتدأ محذوف يمكن تقديره ب “المناضلة”، وما على نحو ذلك، ونلاحظ من خلال العنوان أن الرواية تدور حول شخصيتين رئيسيتن هما: أم سعد وابنها الكبير “سعد”، إضافةً إلى الشخصيات الثانوية التي سنوضحها في السطور القادمة.

مما لا شك فيه أن هذه الرواية تتحدث عن شخصية “أم سعد”، وهي لاجئة فلسطينية تبلغ الأربعين من عمرها، تعيش في مخيمات اللجوء كباقي أبناء الطبقة الفقيرة المسحوقة، تعاني ما يعانون، وتعيش على أمل الخلاص من المحتل في يوم قادم تُحرر فيه العرب فلسطين المحتلة؛ لتضع حدًا للعمل المهين عند الآخرين، لكن تأتي هزيمة حزيران “نكسة عام ١٩٦٧” التي تدمر الجيوش العربية، وتستولي على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية، فكادت أن تدمر النفسية العربية عامة، والفلسطينية خاصة، وأم سعد أولى ضحايا الهزيمة، حيث عاشت عذابًا ماديًا ومعنوياً، لكن مع ذلك كله ظلَّت أم سعد امرأة إيجابية، متفائلة، مؤمنة بالمستقبل المتمثل في الرجوع إلى فلسطين في يوم ما، فهي نموذج للمناضل الفلسطيني العنيد الذي لا يعرف طريقًا لليأس والاستسلام والرضوخ للمحتل والواقع الأليم، فدائمًا ما يكون على طريق النضال والمقاومة رغم كل الهزائم التي تحل بشعبه ووطنه، وهي أيضًا نموذجٌ للمرأة الفلسطينية المناضلة التي تضحي بأبنائها من أجل الوطن، تسير على شعار “الأرض تلد والثورة تأخذ”، وتعتبر أنموذجاً للإنسان الفلسطيني الذي يؤمن بتغيير الواقع المهين، وترك البكاء والنواح والتحسر على الوطن المسلوب، واقتلاع الخيمة “رمز الذل والإهانة”، وحمل البندقية وتصويبها نحو المحتل؛ فهو يرى أن عودة الوطن لا تكون إلا بالقوة مثلما أُخِذ بالقوة.

– ويمكننا القول إن أم سعد ليست امرأة فردية موجودة عقلًا وجسدًا وروحًا، وإنما هي شخصية ترمز إلى الشعب الفلسطيني بأكمله، استحضرها الكاتب ليرمز من خلالها إلى الكفاح المسلح، والثورة، والمقاومة، والمرأة الفلسطينية المناضلة، وغيرها الكثير الكثير.

تبدأ أحداث الرواية عند دخول أم سعد غرفة الراوي، حيث انتشرت رائحتها في كل مكان، وكأن رائحتها رائحة الريف كما يقول الراوي، حيث تحمل في يديها قماشة ملفوفة بداخلها عود من العنب الناشف، وتقذفه نحو الراوي، فيلفه يميناً ويساراً، وينظر إليه قائلًا: “أهذا وقته يا أم سعد؟”؛ لأنه يرى عدم صلاحيته للزراعة، لكن أم سعد تصر على زراعة عود العنب الناشف، ليحمل في الأيام المقبلة عنباً كثيرًا يُأكَل منه، وهذا كله تمثل على شكل حوار دار بين أم سعد والرواي :

– أم سعد: قطعته من دالة صادفتني في الطريق، سأزرعه لك على الباب، وفي الأعوام القليلة تأكل عنباً.

الراوي: ودورت العرق الذي بدا خشبة داكنة لا تنفع شيئًا بين أصابعي، وقلت لها: أهذا وقته يا أم سعد؟

الراوي: وأخذت تعيد ربط شالها الأبيض حول رأسها ، كما تفعل دائمًا حين تكون منصرفة إلى التفكير بشيء آخر وقالت: قد لا تعرف شيئًا الدالية ولكنها شجرة معطاءة لا تحتاج إلى الكثير من الماء. الماء الكثير يفسدها…

– والمتأمل في الحديث الذي دار بين الراوي وأم سعد، يجد أن هناك بعدًا رمزيًا يحمل في طياته معاني خفية، فإصرار أم سعد على زراعة عود العنب الناشف، واستغرابها من الراوي الذي رأى أن كل شيء ضاع لا يمكن استرجاعه، يرمز إلى الإيمان بالمستقبل المتمثل في العودة إلى الوطن، فهي ترى أن العودة إلى الوطن ستكون قريبة.

– ثم تنقلنا الرواية للحديث عن موقف أم سعد عند سماعها نبأ هزيمة حزيران عبر “الراديو”، فكادت أن تكسره لولا زوجها “أبو سعد” الذي أمسك بها قبل أن تفعل ذلك، وهنا أيضًا تحمل الراوية بعدًا رمزيًا وهو غضب الشعب الفلسطيني من الهزيمة التي حلت بهم، ومن العرب الذين عجزوا عن استرجاع فلسطين، بعد أن علّق الفلسطينيون آمالهم وأحلامهم بهم، لكنهم أصبحوا ضعفاء عاجزين عن استرجاع فلسطين، ومن هنا قرر الشعب الفلسطيني أن ينطلق بنفسه نحو التحرير والمقاومة لاسترجاع وطنه المسلوب، واضعًا في فكره أن ما أُخِذَ بالقوة لا يُستردُ إلا بالقوة.

– ونرى في مشهد آخر أن أم سعد تخبر الراوي عن ابنها سعد ورفاقه، الذين أمسك بهم العدو الإسرائيلي أثناء مقاومتهم له، وزجَّهم في سجونه، عندها تمنت أم سعد لو استشهد سعد؛ فهذا أفضل بكثير من بقائه في السجن، وأنا مدرك تمامًا عزيزي القارئ أنك ستسغرب من موقف أم سعد ورغبتها باستشهاد ابنها، لكن أم سعد تخاف على ابنها مثلها مثل أي أم تخاف على فلذة كبدها، لكن حينما يدق وقت التضحيات لأجل الوطن لا بد لها من أن تضحي بأولادها، فهي مؤمنة بأن التضحية تقع على عاتقها، انطلاقًا من إيمانها بقضيتها، هذه هي أم سعد العنيدة المناضلة.

وكما شاهدنا سابقًا، فشخصية أم سعد ترمز إلى المرأة الفلسطينية المناضلة التي تضحي بأولادها لأجل الوطن والأرض، وتتعدد أوصاف الشخصيات في ذلك؛ فهناك أم الشهيد، وأخت الشهيد، وزوجة الشهيد، فالكاتب هنا لا يغفل عن استحضار الدور النضالي للمرأة الفلسطينية المتمثل في شخصية أم سعد.

– وقد حدثتنا الرواية عن قضية “ليث” رفيق سعد في السجن، حيث طلب ليث من سعد بأن تخبر أمه أهله بألا يتوسط لهم ابن عمهم ” عبد المولى” العضو في البرلمان الصهيوني؛ لإخراجهم من السجن، فشخصية عبد المولى هنا رمز للخيانة والسلب والنهب؛ وهذا يدلل على أن الشعب الفلسطيني يرفض التعامل مع العدو الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال.

– كما وذكرت لنا قضية “فضل” الذي ضحى وقاوم وجُرح من أجل الوطن والأرض، “وعبد المولى” الخائن هو من حصد نتاج تلك التضحيات، ونال تصفيق وهتاف الناس، مما أثار غضب “فضل” المسكين، ممزق الثياب، حيث قال: ” ولكون، إسا أنا الذي تمزعت قدماه، وهذا الذي تصفقون له؟ “، وهنا نجد بعدًا رمزيًا، فشخصية “فضل” رمز لأبناء الطبقة الفقيرة المسحوقة الذين هم وقود الثورة، وهم أصحاب التضحيات تجدهم دائماً في مقدمة الصفوف، و”عبد المولى” رمز للقيادات المتكسبة الخائنة التي تشعل نيران الثورة ومن ثم تختبئ، وتنتظر على أحر من الجمر انتهاء الثورة؛ لحصد ثمارها دون تضحيات ولا مقاومة؛ لتنل هتاف وتصفيق الجماهير.

– وتنقلنا الرواية لتحدثنا عن قضية أم سعد مع المرأة الجنوبية، حيث حاول الناطور طرد المرأة الجنوبية من أجل توفير ليرتين، ويحل محلها أم سعد، لكن عندما علمت أم سعد بذلك رفضت أن تحل محل المرأة الجنوبية الفقيرة، فأم سعد ترى أنه لا بد من أن يتحد الفقراء مع بعضهم البعض في كل شيء، وأن يرفضوا كل من يحاول ضرب العلاقة الودية بينهم، و” الناطور” هنا رمز للحقد والكراهية الذي يسعى إلى تمزيق الأواصر الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد.

– ورأينا أيضًا أم سعد تخلع حجاب الماضي “الهزيمة” الذي صنعه دجال عتيق في فلسطين، ألا وهو “الاحتلال”، واستبدلته بحجاب جديد وهو “الرصاصة”، فأم سعد تريد للواقع أن يتغير، وهذا التغير لا يكون إلا بالسلاح والمقاومة، فهي لا تريد أن تتكرر أخطاء الماضي، بل تريد أن تصنع مستقبلًا يخلو من الذل والإهانة، فلا تريد أن يهديها أحدهم سيارة جديدة، بل تريد أن تنسف سيارة للعدو وأن تمسحه عن الوجود، لتتخلص منه.

ويمكننا القول إنه في تلك السطور رمزًا يشير إلى نهوض الشعب الفلسطيني بعد هزيمة حزيران، وتمرده على الواقع المرير وسعيه إلى تغييره، وهذا التغير تمثل في حمله السلاح والبندقية والقيام بالعمليات العسكرية ضد المحتل، بدلًا من البكاء والتحسر على الوطن المسلوب، فـ”أم سعد” هنا رمز للمقاومة الفلسطينية والثورة.

– ونلاحظ أيضًا أن الكاتب وظف مظاهر التغير الاجتماعي في الرواية، حيث تمثلت في شخصية” أبو سعد” الذي عاش طوال حياته منهمكًا في اللهو ولعب القمار، والصراخ، وشتم الناس، حتى وصل به الأمر في آخر أيام حياته إلى شرب الخمر، لكن بعد استشهاد ابنه “سعد” قرر أن يكسر متاع شبابه في الماضي، فأصبح رجلًا إيجابيًا فخورًا بأولاده سعد وسعيد، وأصبح لسانه لا ينطق إلا بالسلاح والمقاومة، وأصبح لسان الناس شيباً وشباباً، كلما رأى مقاومًا يمشي طبطب على كتفيه وعلى بندقيته، نعم! هكذا أصبح أبو سعد.

وشخصية “أبي سعد” ترمز إلى التغير الاجتماعي الذي دخل في أعماق الناس كلها، وهذا التغير تمثل في حمل السلاح والتوجه نحو المقاومة لاسترجاع الوطن المسلوب، وصنع حياة كريمة خالية من الذل والإهانة والشتات.

– وقد انتهت الراوية عندما برعمت الدالية التي زرعتها أم سعد أمام بيت الراوي، التي شقت جذورها باطن الأرض، وهذا المشهد تمثل في قول أم سعد: “برعمت الدالية يا بن العم برعمت”.

وهنا إشارة إلى نهوض المقاومة الفلسطينية من جديد، واسترجاع قوتها بعد أن كانت ضعيفة عاجزة عن الوقوف في وجه المحتل، وأنه لابد من التوجه نحو المقاومة والثورة لإعادة الحق المسلوب، أي أن الرواية انتهت برسالة واضحة لها مدلولها الرمزي وهو: “ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.

زر الذهاب إلى الأعلى