نصوص

قصة سعيد: صفاء حميد

بقلم: صفاء حميد

ربّما كانت الكتابة هي الملجأ الوحيد في هذه الفترة، إحساسك بأنك قادر على الخلق،على ابتكار نصٍّ يدين لك كلُّ حرف فيه بأنّك عرفته إلى أخيه.
كنتُ أعرِفُ أننا نمرّ في زمن صعب، وتأكدتُ من هدا حين سمعت “سعيد” ابن جيراننا الهادىء الوديع يصرخُ في وجه أمه هذاالصباح:أنا حر، قبل ان يصفق باب البيت بعنف خلفه و يمضي راكضاً.
لم يكن سعيد الوحيد الذي يودّ لو يصرخ بهذه الطريقة، حتى انا كنت أريد ذلك، دعني أقل لك بصراحة رغماستنكاري لما فعله هذا الفتى غير أنّني حسدته، لقد فعل في دقيقة الشيء الذي عجزتُ طيلة ثلاثين سنة عن فعله.
من قال إن الصراخ خطأ، أعتقد جازماً أن الصراخ موهبة، و لو كنا جميعاً قادرين على الصراخ في وجوه بعضنا كل صباخ، بدل أن نتبادل التحية لكان حالنا أفضل

دعني أرجع إلى موضوعي، فلم يكن هذا ما أمسكت القلم للكتابة عنه.
حدثتك منذ قليل عن الزمن الصعب الذي نعيشه، لا أعرف تماماً كيف دخلنا هذه المصيدة، رغم اتّساع فضاء الاحتمالات.
تخيل معي مصيدة ضيقة في فضاء احتمالات لا نهائية، وانت هنا كفأر لا يملك شيئاً يدافع به عن نفسه، عدا الشعور الدائم بالخطر.
كلّ لحظة تمر، تشكّل لك تهديداً قادماً من مجهول هلاميٌّ غير قابل للحصر في دائرة التخمين.
كنت أراقب سعيد هذا الصباح بعد ان خرج من البيت راكضاً،والدته واقفة على الباب تحوقل و تدسّ غضبةً بين كلّ حوقلتين: “يغضب عليك يا سعيد و عاليوم اللي شفتك فيه”

سعيد يركض، بدا لي كأنه يأتي من مكان ما في الذاجرة، مكان كان موجوداً دائماً دون أن ألاحظه.
تساءلت كيف لهذا الشارع أن يسكن ذاكرتي أنا الذي لم أعرفه إلا لستة أشهر خلت، أيكون الزمن دائرياً حقاً.
سعيد يركض، و رغم أن المسافة من باب حتى بداية الشاره لا تتجاوز العشرين متراً،غيرني شعرت أنه يركض منذ عشرين سنة دون توقف، يركض عمره كلّه، كأنما كانت صرخة انا حر التي زلزل فيها الشارع منذ دقائق أقرب إلى صرخة ميلاد جديد.
مضت أم سعيد إلى البيت و أوصدت الباب خلفها في اللحظة ذاتها التي علا فيها صوت ارتطام من أول الشارع، اختلط المشهدان، الباب يوصد و سعيد يتوقف عن الركض.

صدى صرخة سعيد استمر في الركض تلاحقه صدى دعوات والدته، و سيارة صغيرة تلطخ زجاجها الأماميّ بالدماء مضت مسرعة في طريقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى