مجتمع

ماري نادر ميا تكتب لليمامة الجديدة: قارعة الطريق

قارعة الطريق 

ماري نادر ميا- باحثة في الفلسفة

لم يعد لدي وطن، اعتقدوا أنني أتحدث عن جغرافيا، ولكنني لم أقصد هذا البتة، لم يعد لدي وطن، اليوم ذهبت في ذات الطريق الطويل، وذات المراكب أخذت، والوقت ذاته قطعت، خرجت مما أسميه منفى، متخذة طريق الوطن، لكن لم أجده، لربما غيرت الاتجاهات، أحدهم عبث بالإعدادات، لم أجد وطني، طريق طويل اعتدت الذهاب والمجيء به لكن لم تكن الوحدة رفيقة دربي، اتخذت ذلك المقعد المجاور للنافذة، وأخذ يأسرني الشرود، لقد أضعت الوطن، تأكدت من فراغ ذهني لم أملك أي تصوّر ولا أمل، كان السكون يسيطر على الرؤية، فقد أضعت الوطن، ولسوء الحظ لم يضع سائق المركب أية أغنية، وحتى محرك تلك العربة تأمر عليَّ لم يصدر ضجيجا كما المعتاد، وكأن السكون الذي يحتلني قد فرض سيطرته على المكان، في لحظة شعرت أنني لم أنتقل من مكان لآخر، وكأنني بقيت في ذات المكان، حتى المرأة التي جلست بجواري كان لها من الأطفال ثلاثة، لكن أيضاً تآمروا عليَّ والتزموا الصمت المرير، هل يتحدث أحد أرجوكم فلينطق أي شيء بأي شيء، السكون يقتلني فلتفعلوا شيء، لكن قلتها في خلدي، وصلت وانتقلت إلى المركبة الأخرى، صعدت وقطعت التذاكر ثم جلست أيضا في مكاني المعتاد بجوار النافذة، أشاهد الناس كيف يتزاحمون كي يصعدوا، وبعضهم الآخر ينتظر المركبة التي يحتاجها، والبعض يسير في عجلة، وكل مشغول بما يخصه، تساءلت أما زلت أخصه كي ينشغل بي، نظرت لساعتي فاتني الوقت وتأخرت عن توقيتي، شعرت أنني غير مكترثة، فلم يعد أحد كما السابق، من النافذة رأيت فتاة تبكي وتعمل جاهدة لتمسح دموعها لكن كانت دفاقة، وكأن الخذلان طالها، شعرت بغصة في قلبي، واختنق صوتي، لا أعلم لم شعرت بها، ربما مصابنا واحد وحدتنا الهشاشة، لكنها أظهرت مشاعرها، ربما هذا كان سبب وجعي أنني أظهرت مشاعري، تابعت دموعها المنهمرة كأمطار كانون، لم علينا أن ندفع باستمرار، الحب مرارة وحلاوة وربما حلاوة ومرارة، كيف يستطيع أن يكون على هذا النحو، أتعلم أني عندما أضع قلبي بين يديك عليك صونه، فالقلب هش سريع الانكسار، أتعلم كم هو موجع أن أقدمه لك هدية تسعدك فتحطمه، أتعلم أن الحب يرسم طبقة هلامية تغطي القلب، هذه الطبقة رقيقة جدا، هي جوهر الحب، سارت المركبة قبل أن أخبر دموع الفتاة التتمة فأشحت بناظري للأمام واستقر على هم، فأكملت إخبارهم بتتمه القصة في ذهني، هي جوهر الحب، تبدأ هذه الطبقة بالتشكل والنمو في بداية العلاقة، ومع الشهور الأولى للحب تغطي كامل القلب، وتمتلك ميزة أنها تنشر الهدوء والدفء في تجويف الصدر، فتحيا ربيعاً وإن كان الخارج قطيباً، توقفت العربة في الموقف المخصص لها وغادروا قبل أن أنهي ما أريد قوله، كأنهم وقعوا في التجربة إلا فتاة بقيت متسمرة في مكانها، خلتها تقول لي هل أكملت؟! فتابعت، هذه الطبقة الهلامية هي صدق قلبنا تجاه من نحب، هي رهاننا عليه،هي كل ما لدينا من مشاعر قدمناها للآخر، وفي أول موقف مراهنة خاسرة تتهشم هذه الطبقة، فيبدأ الخريف باحتلال المكان، حتى يسيطر على كل شيء فندخل بحالة صدمة، ولربما نسميها بدقة خذلان، توقفت العربة وبادرت الفتاة بالنزول لكني لم أنهي، توقفي صديقتي لقد سقطت منك بعض الأوراق، ونظرت إلى عينيها مكملة فتعيشين بعدها شتاءً تحطم عواصفة قفصك الصدري، رحلت الفتاة وبقيت أتأمل المحيط، لم عادت الأبنية هنا كأبنية كل مكان، والطرقات كطرقات كل مكان، وكأن هذا الدوار لم يعد يميز المنطقة، وذلك النفق بات تكرارياً لأنفاق كل مكان، وأيضا ذلك الجسر غدا كأي جسر، توقفت العربة في موقفها الأخير، هممت بالنزول، لكن بهدوء قلب، توقفت لألقي نظرة للمكان وفي كل الإتجاهات، بات مكاناً عادياً، دوار، بحرة ماء، دكاكين ألبسة، وأخرى للمأكولات، وغيرها لكل نوع، لكن شعرت اليوم أنها تكرارية ليست براقة كما السابق، استجمعت نفسي وقلبي وسرت، ذاتها الطرقات سلكت،لكنها مطفأة اليوم، رغم الحضور القوي للشمس، لكنها مطفأة، اجتزت الشوارع الواحد تلو الآخر لأرى نوراً لكنها مطفأة، تأكدت أنني فقدت الوطن، قلت في داخلي لربما بعض الطرقات الأقرب للبيت ستكون أكثر نوراً.. توقفت عند ذلك المبنى، كان مقوساً لطالما شعرت أنه يملك من التميز ما يجعله مركز إشعاع للكون، لكن اليوم في تأملي للمنبى أعادني إلى أن المنفى يملك ذات المبنى، ضحكت ضحكة مبللة بالدمع، رحل البريق، وسرق الوطن، تابعت سيري لأصل بأقل وقت ممكن، عند ذلك التقاطع أوقفني قلبي المخذول، رميت نظري بكل الإتجاهات لكن فقدت الوطن، فهل أكمل أم أتوقف، وما الضير؟؟أهي الحقيقة القاسية أي حقيقة أقسى من أنني لم أعد أملك وطناً، وعاد كل مكان منفى ورحل الوطن، من انفصالي عن الواقع أعادني صوت مرتفع جداً من سيارة تعبر الطريق (كذبك حلو شو حلو لم كنت شي كذبة بحياتك…كذبك حلو يا أول كذبة صدقتا بحياتي… كذبك حلو يا احلى كذبة واخترتا بذاتي… كذبك حلو حلووووو)، رحل لوطن…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى