نصوص

ما زال محتجزاً: علاء أبو جحجوح

ما زال محتجزاً

قصة بقلم: علاء أبو جحجوح

مساحة من الفراغ يملؤها أحد ذراعيها بعفويتها، غير المعهودة، أو المسموح بها أن يملأ أحدهما ( الذراعين)، هذه المساحة من الفراغ، ليست من باب الدكتاتورية، أو خوفاً من العبث بتلك المساحة، أو محرماً عليها لمسها، لكن هذا المكان من الفراغ، كان ومازال محجوزاً كل ليلة لمالكه الذي يُشكِّل جزءاً مهماً وعنصراً أساسياً في حياتها، بصفاته المألوفة، سواء كانت إيجابية أو غير ذلك، فمعتادة عليها، تحترم خصوصيته ومكانته، واضعة كل الأشياء بمكانها، دون فلسفة الأمر، تاركة مساحة للآخر ( الزوج) كي يشاركها في رأيه، وصنع القرار، بغض النظر عن قرب الآخر لها، وتأثره بها، فهذا الفراغ الكبير لم يُملأ بعد، فالأمر لم يكن نتيجة الصدفة لإحدى ذراعيها، تجاوز المساحة المقررة له، ولم تأمرها بذلك، بل حاجتها المليئة بالشوق، معتادة على ملامسته والتقرب منه رويداً رويداً، فهي ليست على يقين سيبقى المكان المحجوز فارغاً، ولن تسمح لصغيرها الرضيع المتمسك بثديها بملأ الفراغ، وتلتزم بالمكان المسموح لها عند المبيت، ولن تعطي لذراعيها اللتين اعتادا على احتضان الغائب عند الغريزة، لتشعر بالعشق والأمن، وامتلاك المساحة الفارغة، فتُبقي الأمر كما كان عليه كأنه حاضراً.
تعاهد نفسها: سأحافظ على خصوصيتك، وأهيئ فراشك، وأضرب الوسادة كي تكبر وتصبح ناعمة تحت رأسك، وسأملأ كأس الماء، وأرتدي ملابس النوم التي تحبها، وسأخفض ضوء الغرفة، وأبدأ بالحديث عن يومي، بكل هدوء، بلا انفعال، وسأتحفَّظ بالمثيرات بداخلها، وأرضع صغيرنا بعيداً عنك، كي يتسنى لك النوم، فكن ملتزماً يا ذراعي لا تفسد ليلته، أعرف أنك مشتاق لتحضنه. تشير بيدها نحو صغارها، تأمرهم أن يتوقفوا عن اللعب، تمهلهم فرصةً أخيرة، تصرخ في وجه أحد صغارها، اتركه مكانه لا ترتديه بأرجلك مرة أخرى، لقد اشتريته ولم يرتديه، يستهجن ابنها البالغ المراقب للأشياء كلام أمه الظاهر عليه التعب والإجهاد: كفاكِ يا أمي لقد حان موعد الدواء، لماذا تتجاهليه؟! فمرض( الذهان) يحتاج إلى دقة في المواعيد. لا تعقِّب على كلامه. تجمعهم بالقرب منها، تهمس في أذنهم، تأخذهم بين أحضانها نحو مكان آخر، لا تفسدوا نومه مثل ذراعي. (من تقصدين يا أمي؟) فلا يوجد أحد نائم!! تتجاهل صغيرها، تأكد على القانون المتبع مسبقاً في البيت، رغم غيابه. تلتفت من حين لآخر حول نفسها، تنظر إلى الباب مرة وإلى النافذة مرة أخرى، كأنها على موعد، يسألها صغيرها مرة أخرى: ما بكِ يا أمي أتنتظرين أحداً؟! فالوقت متأخر، ولا يوجد سوى الكلاب في الخارج. لا تقلق (كعادته لم يلتزم بالموعد) تُجيب. يتعجَّبون من أمرها: لقد طال أخي على صدرك يا أمي، ضعيه في السرير كي تستريحي، أتأمُرين بشيء قبل أن ننم؟
_ اذهبوا إلى فراشكم، وسألحق بكم إلى سريري عندما يتسنى لي النوم.
تبدأ بالتجول في مرافق البيت، حالة من القلق والتوتر تخيِّم عليها، تجلس في أحد زواياه القريبة من الباب الرئيس للبيت؛ فهي على أهبَّة الاستعداد، كي لا يطيل الانتظار خلف الباب. عقارب الساعة تزداد اقتراباً نحو فجرٍ جديد، ولم يُقرع الجرس بعد. تنتقل إلى زاوية أخرى من البيت لتكون أكثر حظاً، يُخيَّل إليها أن صوتاً يناديها، تتفقد صغارها تتسلل بينهم على أطراف أرجلها، تدور حول نفسها بهدوءٍ كراقصة باليه، تتجه نحو غرفة النوم، يبدو لها المنادي هنا، تلتقط أنفاسها، تقف على رأس سريرها، تتفاجأ بوجوده، ها أنت هنا؟ بصوت عالي تعاتبه، وبطريقة ساخرة وبألفاظ جارحة، ضاحكة وباكية بنفس الوقت: أتعتقد أنك ستهرب مني، أنا أحبك، فلا داعي للهرب، كفاك مزاحاً، ألم تشتق إليَّ؟! أم هناك من تغريك أكثر مني، ألم تلاحظ شيئاً بمكانك المحجوز، إنه مهيأ لاستقبالك في أي وقت، ولم أسمح لذراعي العبث في مساحة نومك من السرير، إلا إذا أردت ذلك.
تدور حوله برشاقة: إنه ذو لونٍ جميل أليس كذلك، لقد ارتديته لك مرة واحدة وهذه الأخرى.
تقترب نحوه بخجل، تخفض ضوء الغرفة، تهامسه، تتحسس أشياءه، تضع أناملها على وجهه، تغمض عينيها، ماذا تنتظر؟! تقترب منه أكثر: ألم تشعر بي؟ تملأ ذراعيها الفراغ، تفيق مما فيه، تناديه تبحث عنه، تيقظ رضيعها وصغارها، من نومهم تصرخ في وجوههم: أين ذهب أبوكم؟ كان برفقتي الليلة، اعترفوا وإلا سأمنع عنكم المصروف، ولن أسمح لكم اللعب. ما بكم تنظرون نحوي؟! ألم يعجبكم قميص نومي هذا؟! انصرفوا من أمامي، سأشكو لأبيكم عن سوء أعمالكم معي، سأتصل به كي أستعجله.

“عذراً الهاتف الذي تحاول الاتصال به مغلق حالياً”.

وبصوت واحد: اهدئي يا أمي لن يعود أبي ليملأ الفراغ، لقد ابتلعه البحر هو ورفاقه المهاجرون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى