ثقافة

مكتبة بلا رفوف

مكتبة بلا رفوف..

بقلم: زينب حسن يوسف

يُحكى أنّه في قديم الزمان، عاشت فتاة تحبّ الكتب كثيراً، تهوى جمعها وقراءتها كما تهوى الغيوم زيارة السماء كلّ يوم!

جاءها سانتا كلوز، منتشياً وسعيداً، يلبس ثيابه المعتادة وابتسامة ساحرة تظلّل وجهه الطيّب، قال بصوت دافئ:

-لا أستطيع المكوث هنا طويلاً، إليكِ ما سمعته، ستكتب الملائكة قائمة بأجمل الهدايا، لمن يصنع شجرة ميلاد مميزة.. ما رأيك؟ تستطيعين المشاركة يا حلوتي..

-أوه، هذا ممتع.. لكن كما تعلم، فأنا لا أملك عدّة التزيين ولا أملك شجرة حتّى..

-يا إلهي، ما الحل؟ ساعات وستقلب الساعة وستبدأ الزيارات المفاجئة، ستخرجين من المنافسة إن لم تصنعي شجرة!

-لا تنتظر مني شيئاً سانتا، أنا حزينة ولن أشارك.. لقد جئت متأخراً

-لا تحزني، هنالك حلول كثيرة.. دعيني أفكّر..

((أبراكادابرا)) قال سانتا بصوت قويّ..

ومض المكان من حولهما وظهرت سيدة عجوز ولكنها مرتبة المظهر، تضع قبعة كقبعة الساحرات، تمسك عصا معقوفةً في الجزء العلويّ، تنفض ندف الثلج التي علقت بثيابها، قالت ساخرة:

-أووووه، الجو بارد هنا.. سانتا، لقد طلبتني في وقت غير مناسب، كنت أحضر رقائق الكورن فليكس بالحليب لحفيدتي المشاغبة، لقد أثارت جنوني بطلباتها التي لا تنتهي.. المهم، ماذا تريد؟

قصّ سانتا الحكاية للعجوز، التي تعاطفت مع الفتاة وابتسمت بطريقة واثقة، كأنها تقول: سيكون كل شيء على ما يرام، اطمئني..

-أدعى السيدة نجمة، ذات الأفكار العجيبة، سأساعدك يا عزيزتي

-سأكون ممتنة لكِ..

-إذن، عليّ الرحيل الآن، أمامي الكثير من الواجبات، نلتقي قريباً، حين تدقّ الساعة سأكون هنا لأرى الشجرة..

-ههههه.. أنت دائماً مستعجل، انتبه إلى نفسكَ..

ثم التفت إلى الفتاة وقالت: حسناً، لم يزعجني قدومي إلى هنا، لكنّني أحبّ إثارة غيظه ليس إلّا.. وضحكت

تريدين مساعدة؟! حسناً، انظري إلى السماء فقط وسترين الإجابة..

حملقت الفتاة مستغربة، هل ستسقط الشجرة من السماء البعيدة؟ أم ستُنزِل الغيومُ الزينةَ الجميلةَ؟ هل يعقل أنّ السيدة نجمة قد جنت؟ أم أنها تريد إغاظتها أيضاً؟!

-انظري، هيا..
الوقت ليس ملكنا..
نظرت الفتاة نحو السماء، فرأت شريطاً من الصور يمرّ عبر النجوم الوضاءة..

شهقت ضاحكةً: يا إلهي، هذه أنا..

كانت هي فعلاً، فتاة صغيرة تمسك قصصاً كثيرةً وتقرأ..
كانت هي فعلاً، فتاة في الإعدادية تشتري كتباً وتقرأ..
كانت هي فعلاً، فتاة في الثانوية، تقرأ من مكتبة والدها المتواضعة، تقرأ ما شاءت لها الأقدار، أن تلتقيه من كتب..
كانت هي فعلاً، فتاة جامعية تقف أمام المكتبات، وباعة الكتب البسطاء، الذين ينثرون كتبهم على الأرصفة، كما ينثر القلاح البذار في الأرض، متفائلاً ومعطاءً..
تقف ونشوة هانئة تملأ فؤادها، صوت رقيق ينسلّ بهدوء إلى روحها، فتاة تشتري وَتقرأ، تقرأ وَتكتب، تكتب وَتؤلّف، تذكرت نفسها، وتذكرت اسمها، تذكرت زينة أعيادها وصاحت فرحةً: الكتب..

قالت السيدة نجمة:

-بالضبط، زينب الشجرة التي عرفتها منذ الصغر، كنت أراقبها من بين الغيوم وأهدهد لها لتنام، زينب التي تعلّمت كيف تكتب وتقرأ، كيف تحكي القصص، كيف تسعد الآخرين بكلماتها، كيف تخلط الحروف برقّة وسلاسة، ومن ثمّ تضع كلّ ذلك في قالب لا حدود لشكله، إذ أنّه لا نهائيّ الأبعاد، إنّه من النوع الذي لا يصدأ ولا ينكسر، قالب يعرف كيف يحافظ على وجوده، قالب اسمه: العقل والقلب..

-هل يمكن أن أنجح؟

-نعم يا حلوتي..

-أيتها الشابة، تملكين أجمل شجرة في الكون.. أشارت بيديها نحو سماء بعيدة ذات ألوان غريبة لكنّها ساحرة، وقالت بهدوء: تملكين نفسك، تملكين سرّ وجودك، تملكين حيوات لا حصر لها، أصواتاً وشخوصاً لا يُحصون في قائمة، تملكين الأبدية في أوراق وَاللحظة الحاليّة بضحكة، اضحكي لتزهر شجرتك التي تسقينها مذ وُلدت، وَهيّا بنا نزين الشجرة..

مكثت السيدة نجمة ثلاث ساعات بصحبتي، نحضّر شجرة الميلاد، بزينة متواضعة لكنّها جميلة..

كانت الأجواء التي خلقنا وجودها بأيدينا وتفكيرنا الغريب، أجواءً مدهشة.. ساعدتني السيدة نجمة في كل شيء، كما أوصت صديقاتها أن يأتين ببعض السكاكر وقطع الشوكولا..

-أنا لا أتخيّا عيداً دون شوكولا.. إمممم، تبدو شهيّة..

ضحكتُ وتابعتُ عملي

-لدينا هنا مجموعة من الكتب، لنبدأ..
حليب أسود! يا إلهي، أيعقل؟ قالت مستنكرة!

-ألا تعرفين معنى أن تكتئب المرأة بعد ولادتها؟

-أنا؟؟ هه، أنا التي أعرف، أعرف من تجربتي وتجربة ابنتي… والحمد لله، فإنّ حفيدتي شيطانة، أتعبت أمها، ولكنّها تضحك وتهذي وتبعث الجنون في كلّ مكان، ولا تشعر بأدنى ذنب..

-الأطفال رائعون، ربّما أشقياء.. لكن لا يمكننا الاستغناء عنهم

-حسناً، طعام، صلاة، حبّ.. كلّ هذا؟ صدقيني، أنا لا أستطيع فعل ذلك دفعة واحدة!

-ومن قال دفعة واحدة؟ لقد أخذت هذه الرواية سنوات من عمر الكاتبة، لكنها رواية جميلة ومؤثرة يا سيدة نجمة..

-إممم.. تتكلمين هكذا لأنّك كاتبة مثلها! هذا طبيعي..

ضحكتُ بقوّة، ثمّ ذهبت إلى خزانتي لأجلب علبة الشموع العطريّة..

-الله! عنوان رائع.. اخرج مع فتاة تحبّ الكتابة! يليق بك كثيراً، تُرى ما الذي ستطلبينه ممن يريد لقاءك يا كاتبة؟

-مارشميلو بلون الغيم في صباحات الربيع المشمسة، شوكولا محشوة بالبندق أو اللوز، أو ربما فنجان قهوة يفي بذلك.. ما رأيك؟

-أنا لست كاتبة، لكنّني لو كنت مكانك، لطلبتُ بيتزا بصلصة إيطالية خرافية، أو ربما فطائر ساخنة مع كوب شاي بالقرفة، هاه، وسأحدّد مكاناً خاصاً للقائنا، بيت من العصور القروسطية، أو كوخ خشبي يطلّ على نهر السين..

-أنت مسليّة جدّاً..

-وهنا رواية تبدو ضخمة، هل قرأتها؟ ألف شمس ساطعة!

نظرت إليها بعينين بائستين، وقلت: هذه الرواية أبكتني بقوة، يجدر بي ألا أبكي الآن، عليّ إنهاء عملي..

-عمّ تتحدث؟

-عن كل شيء في شيء واحد.. شيء اسمه الحرب

-أنا لا أعرف حروباً دامية، أعرف حروب النجمات اللواتي يتسابقن للتسلية مع القمر في ليالي السمر الصيفيّة..

-أمّا أنا وغيري كثر يعرفون، يعرفون ويبكون.. وهذا أقسى ما في الأمر

-ما هذه العلبة؟

-علبة شموع، أأعجبتك؟

-واو.. ما أجملها! من أين لك هذا؟

-أجمع هذه الشموع منذ سنوات بكلّ محبة، إنّها تمنحني الأمل..

-حدائق النور! أمّا هذه سمعة!! منذ متى وللنور حدائق؟!

-منذ أن كتب أمين معلوف عن ماني، هل تعرفينه؟

-لا، من يكون؟

-ابحثي عنه في غوغل..

-لا غوغل في بيتي.. السماء لا تقدم لنا خدمات مجانيّة، أنتم مدعومون..

ضحكنا..

-أتعرفين؟ لكلّ كتاب هنا حكاية، حكاية لا يمكن أن أنساها..

-هاه، وتنسين كتب ال pdf؟

-بالطبع لا، هؤلاء أيضاً أصدقائي..

وضحكنا..

غفوت يومها وأنا أحلم بالملائكة تزور غرفتي، وتلقي نظرة على شجرتي، حلمتُ بسنواتي كلّها، تمرّ صورة إثر صورة، تذكرت كلّ الذين عرفتهم، كلّ من دخلوا حياتي، كباراً أو صغاراً، تذكرت وجه جدتي وصوتها الحنون، ربما هي من أرسلت الملائكة لتزورني، ربّما كانت هدية عيد الميلاد منها، رغم أنّها قدمت لي أجمل هدية في الكون، قدّمت لي الحب والحنان، علّمتني كيف أطهو ألذّ الأطباق، كيف أكون طيّبة، كيف أخبرها بما في قلبي وأنا مطمئنة أنّها لن تخذلني، تذكرت سهراتنا سوية، ماضيها كلّه، كان يتسرّب كشعاع من نور، في روحي، تذكرت طفولتي وشبابي وهي بقربنا، لا أدري لم استعادت ذاكرتي صورتها هي فقط؟! إنّها المرة الأولى التي أكتب عنها للعلن، لستُ بحاجة لأكتب عنها كثيراً، لأنّها في روحي وقلبي، محفورة كنقش سومريّ لا يُمحى، أكتب عنها بيني وبين نفسي كحال كلّ الذين أحبهم، أحبّهم بصمت، بصمت وخشوع، بصخب روحيّ يرقص في ثنايا جسدي، كما يرقص قوس قزح بين الغيوم البعيدة..

غفوت وأنا أحلم برؤى متعددة، ذات ألوان ممزوجة ببعضها البعض، تذكرت كلّ الناس، وجوههم وأصواتهم، ولكن.. غابت وجوه كثيرة، غابت إلى ما وراء الأبد كلّه، ولم أعد أميّز إلّا صوراً بسيطة، لأناس أحبهم ويحبونني، أناس أسمع همسهم بالقرب مني، أسمع أرواحهم تناديني، أرى هالاتهم ترقص حولي كأنّهم الشمس، وأنا الكوكب الذي يريد نوراً ليضيء..

غفوت، والسيدة نجمة وسانتا يصفقان، يخبرانني، أنّني فزت بهدية جميلة، قفزت والسعادة تغمر قلبي..

لكن.. للحظة واحدة، امتدت نحو أمد سرمديّ لا مرئي، تقدم نحوي وابتسامته الرقيقة تلوح لي، كما يلوّح مسافر لصديقه، أو عزيز عليه..

لم أميّز وجهه، لكنّني عرفته، حدس ما أخبرني من يكون..

قلت له: لقد التقينا ذات مرة..

-هذا صحيح، أتعرفين من أكون؟

-نعم، لكن لا طاقة لي لأنطق اسمك..

-أعرف ذلك، انطقيه بالكلمات..

-كيف؟

-اكتبي..

-هل ستكون معي؟!

-ما الذي يقوله قلبك؟

-لا فم لقلبي وأنت هنا، إنّه لا ينطق.. ينبض فحسب

-دعيه ينبض وأكملي.. هذي إجابتي

اختفى ذاك الوجه، وملأ المكان ضباب مخيف، وظلام دامس

استيقظت فجأة، كانت الشجرة بأبهى حلّة، وملائكة لطفاء يتوزعون في جنبات الغرفة، والسيدة نجمة تأكل لوح شوكولا وتشرب القهوة بالحليب..

-لقد جاؤوا، ينتظرون استيقاظك، كل عام وأنت بخير.. هذه هديتك

فتحت المغلّف بلهفة واندفاع: تُرى، ما هي؟
.
.
.

وأنتم أخبروني ما هي هديتكم؟!

سوريا- اللاذقية

9-12-2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى