مجتمع

نساء لسن للبيع: خالد جهاد

نساء لسن للبيع

خالد جهاد/ كاتب فلسطيني 

تشد أغلبنا لافتات التخفيضات في الأسواق ونبحث عن السلع الأقل سعراً بجودةٍ مقبولة تناسب إمكاناتنا، فنتنقل بين المتاجر بحثاً عن ما يناسبنا أكثر، وقد نمضي فترات طويلة بحثاً عن ما نريده دون كللٍ أو ملل، لكن هل فكرنا في قناعاتنا التي نحملها وأفكارنا التي نعتنقها؟ هل فكرنا فعلاً أم أننا نقلناها عن آخرين نقلوها بدورهم من الغرب كما اعتدنا في دولنا العربية، دون تأمل أو تحقق أو غربلة أو تمعُّن إن كان ما يوافق المواطن الأوروبي أو الأمريكي يوافقنا نحن؟ وهل انتبهنا إلى أن العديد من الدول المتقدمة والصاعدة لم تتحول لنسخة عن الغرب وصنعت نموذجها الخاص، اتفقنا معه أم اختلفنا؟ وهل ركزنا وسط الكثير من الجدل والنقاشات إلى افتعال العديد منها، ومحاربة طواحين الهواء بغية الشهرة ولفت الأنظار، وخلق نوع من الفرقعة الإعلامية والقنابل الوهمية ولو كان ذلك على حساب القيم والمبادئ والصدق واستقرار المجتمعات، من خلال التركيز على موضوعي الدين والجنس واقحامهم عمداً، في زمن تحول فيه كل شيء إلى سلعةٍ ومادةٍ قابلة للبيع والشراء..

ولا شك أن الكثير من تلك الشعارات والأفكار سقطت بالتجربة، وتعرَّت صورتها أمام الجميع من خلال تصرفات أصحابها، فنكتشف أن طرفيِّ النقيض كثيراً ما يقومون بتقسيم الأدوار بحثاً عن مكاسب خلف الكواليس، فيما يدور الصراع على أشده أمام الرأي العام، ومن القضايا المضمونة والتي تحقق نسبةً عالية من الجذب والاهتمام وتثير الجدل دائماً قضية المرأة وكل ما يتعلق بها.

فهذه القضية الشائكة المتفرِّعة المتعددة الجوانب والأوجه والرؤى ووجهات النظر هي حصانٌ رابح لكل باحث عن الشهرة، ومن يتبنى ثقافة (التريند) ويريد الظهور، وتداول اسمه بين الناس بمختلف الطرق وربما تكون المرأة لا تعنيه وربما تكون لبعضهم زوجة يخونها أو يقوم بضربها أو الإستيلاء على أموالها، لكن تكونت الصورة النمطية التي رسَّخها الإعلام عن أن من يتربص بالمرأة هي فئة واحدة مُدَّعية للتدين وتستخدم الدين للسيطرة عليها، لكنها لا تنقل الصورة بأكملها. وتظهر فئات أخرى تستخدم جسد المرأة تحت شعارات التحرر والعلمنة بغية تحصيل مكاسب سياسية أمام التيارات ذات الخلفية المتخفية خلف الدين، ونلاحظ وجود حالتين مرضيتين متناقضتين، كلاهما لديه حالة من الهوس بجسد المرأة، فبعض من يدَّعون التطور والتقدم والتمدن والتحرر يعجزون عن تقديم أفكار تُعزز رؤيتهم، وتحقيق واقع محترم لوضعها في المجتمع فنراهم في حالة رغبة دائمة لتعريتها، وبشكلٍ رخيص يتوارى خلف شعارات كاذبة، تتغزل في النساء وبقيمتها ودورها عبر تضاريس جسدها ورغبتهم في تحريره ليتملكوه، فتنتقل من عبودية إلى عبودية مع تغيير المسميات والجهة التي أصبحت مملوكة لها أو تعمل لحسابها، فنجد البعض من هذه الفئة (المتحضرة) مثلاً على حسابه الشخصي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي يعرض باستمرار صوراً فجَّة لنساء عاريات تحت شعار محاربة التطرف، ولا يخبرنا أحد هؤلاء (الرجال) لِمَ يستخدم جسد امرأة ولا يستخدم جسده لإيصال هذه الرسالة السامية والعميقة؟ ولماذا يتلذذ هؤلاء الأشخاص بتعرية النساء فيما يخفون زوجاتهم وكل الإناث التي تجمعه بهم صلة قرابة عن الأنظار ولا يجعلها مشاركةً في (المعركة التحريرية الكبرى) التي يخوضونها؟ ولماذا لا ينخرط المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع في تحليل هذه السلوكيات الغريبة؟ وإذا كان برأي بعضهم أن المرأة حرة وقادرة فعلاً، فلماذا يمارس الكثير منهم محاولات لمنع ترقِّيها في السلم الوظيفي وتقلُّد مناصب مهمة والحرص على جعلها أقل دائماً؟ أليس ذلك ليتمكن من استخدامها وجعلها تحت السيطرة بشكل دائم وفي حالة احتياج إليه، بحيث يستطيع ممارسة الضغوط المستمرة عليها؟ ولماذا لا نرى الكثير منهم يساند حق المرأة في إعطاء جنسيتها لأبنائها، أو يطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية الذي لم يتم تحديثه في معظم الدول العربية منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي؟ ولماذا يهرب الكثير منهم إلى الأمام متناسياً واجبه التنويري ويلقي باللائمة على الأديان حتى بدون مناسبة، وفي قضايا اجتماعية لا علاقة للدين بها؟ ولكنها لن تكسب زخماً أو تثير جدلاً إلا باللعب على الغرائز الدينية والعاطفية والجسدية للجماهير لتكسب بعضاً من التصفيق عن طريق هذا النوع المكشوف من الإثارة، إضافةً إلى اختراع أكاذيب ونسب عادات وتقاليد اجتماعية إلى الدين لتستعرَ الحرب ويرد الطرف المعاكس.

وبالتوازي، نجد في المقلب الآخر من يعتمد على مجرد ترديد لأفكارٍ وشعاراتٍ تبدو دينية للوهلة الأولى، لكن من يتحقق ويميط اللثام عن كثيرٍ منها يكتشف أنها مجرد تفسيرات وتغليب لأهواء شخصية لا علاقة لها بالدين، لكن يُراد للناس أن تظل في حالة جهل وتجهيل مستمر من قِبَل هذه التيارات إضافةً إلى التيارات المُدَّعية للتطور والتقدم والمساواة والعدالة الاجتماعية لتدور رحى الحرب، وتستمر الخلافات بين أبناء الشعب الواحد من جهة وبقية الشعوب من جهة أخرى، ونرى ذلك عند تقاسم السلطة في أي معركة انتخابية، أو أي قضية مفصلية حقيقية تهم الناس، ويظل بعضهم يتغطى بمسميات التفكير والإبداع والثقافة والثورة والتحرر، ويدور الجميع في فلكهم ويقوم بتمجيدهم كمخلصين ومتنورين لا يسعون سوى للشهرة وتحقيق مكاسب لهم ولفئاتهم الثقافية والاجتماعية والطائفية، ولو كان ذلك على حساب غيرهم، رغم شعارات المساواة والعلمانية والشفافية والمواطنة ورفض الشللية وتكافؤ الفرص، وهو وجه واضح للفساد والتطرف لكنه يستخدم البذلات الرسمية الفاخرة وفساتين السهرة الموقعة من أرقى بيوت الأزياء العالمية، ويتحدث اللغات الأجنبية والمصطلحات المعقدة والتي لا ينبغي للناس فهمها وإلا انتفى دورهم الريادي كـ (صفوة المجتمع)، ويقابله تطرف ساذج بأدوات قديمة وأفكار ممجوجة، وخطاب مترهل منفصل عن قضايا العصر ولا يتصل بالعلم والمعرفة والثقافة الحقيقية، ولا يمارس النقد الذاتي ولا يطور نفسه ويعزو ذلك كذباً إلى الدين ليبرر وجوده، ويجعل من ينتقده في مواجهة مع الدين كنوع من الترهيب على اعتبار أنهم يمثلونه وهو قطعاً غير صحيح.

تضح الصورة أن كلا الطرفين هو متاجر بقضايا المجتمع والمواطن وأوجاعه، وكلاهما يبحث عن مكاسب وألقاب وأدوار دون محبة حقيقية للناس، بل أن بعضهم يقوم بتصفية حسابات شخصية ومشاكل خاصة عن طريق محاربة كل من يختلف عنه من الفريقين، ولا يهمه الإنسان ولا تهمه المرأة بل يهمه مصالحه ومصالح الفئة التي ينتمي إليها، ولكليهما نقول: لا تتاجروا بالمرأة وبجسدها ومشاعرها تحت ذريعة حمايتها، فهي كائن كامل عاقل واعي منتج ومساعدتها تكون بتعليمها وتثقيفها وإعطائها فرص للعمل، وعدم وضع العراقيل أمامها وابتزازها بأطفالها وجعلها في حالة احتياج دائم، وإيجاد قوانين تحميها وتحمي الإنسان ككل؛ لأن المرأة ليست في صراع مع الرجل، لكن حالة الإلهاء والبلبلة تعود على تلك الفئات بالكثير لتستمر في تصدُّر المشهد، وخيار المرأة الديني والروحاني ينبع منها وليس بدفع من أحد، فالقيم والدين والإنسان ليسوا للبيع، والنساء لسن للبيع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى