مقالات

الظل الكبير.. سميرة عزام

الظل الكبير.. سميرة عزام

بقلم: نائل يوسف الشبراوي 

بدايةً لو نظرنا إلى عنوان القصة “الظل الكبير” ، نجد أن الكاتبة أسندت المضاف ” الظل” إلى المضاف إليه ” الكبير” وهذا ما نراه حسب القواعد النحوية، ونلاحظ أيضاً أن العنوان يحمل في طياته معانٍ خفية لا يمكن الكشف عنها إلا بعد الغوص في أعماق القصة والتعرف على أحداثها، حينها ندرك المقصود بالعنوان، نحن لا نعلم ما تقصده الكاتبة ” بالظل الكبير”، أهو ظل حقيقي أم وهمي لا وجود له؟ لا نعلم صراحة إجابة هذا السؤال، وهذا ما سيتضح معنا في السطور القادمة.

وهذا الفن الأدبي الذي بين أيدينا ينتمي في نوعه إلى القصة القصيرة، والتي يتناول فيها الكاتب جانب معين من جوانب الحياة، أو موقف من مواقف الشخصية الإنسانية بأسلوبٍ سردي شيِّق، و تمتاز بالتركيز على الأحداث، والشخصيات، والمكان، والزمان، وما إلى ذلك من عناصر القصة، كما تمتاز بوحدة الانطباع، أي بمعنى: جميع عناصر القصة تتآزر من أجل إحداث أثر كلي في ذهن القارئ أو المتلقي بعد أن ينتهي من قراءة القصة.

أما عن مضمون هذه القصة، فهي تدور حول فتاة مثقفة عبقرية، تخشى دائماً الأشياء المجهولة، تخاف على مستقبلها، حريصة على ملء أوقات فراغها بما هو مفيد ونافع، تخاف دوماً أن يفوتها قطار الأحلام والأمنيات، تنزعج من الأمور العاطفية، وتسعى إلى البحث عن شخص مثقف ذو عقلية فذة يناسب مستواها العلمي والفكري، وهذا الشخص الذي تبحث عنه هو “الظل الكبير” الذي سوف تستظل به طوال حياتها، لكنها لم تفكر في فاعلية الزمن الذي يهدم مثلما يبني، ولم تفكر ماذا ستكون بالنسبة إلى ذلك الشخص في حال وجدته؟

أو كيف يراها من وجه نظره؟ أهي الفتاة المثقفة المتعلمة؟ أم الفتاة العادية مثلها مثل أي فتاة؟ وهذه التساؤلات كلها طرحتها الكاتبة في القصة منذ البداية والتي كانت تجيب عنها بنفسها نيابة عن الفتاة، حيث تتقمص شخصية هذه الفتاة، التي تتعرف على كثير من الأشخاص الذين كانت تقابلهم في النادي -الذي يجتمع فيه أصناف عدة من الناس- ولكنها لم تجد الشخص الذي يناسبها؛ فهي لا تبحث عن شخص يحبها لجمال عينيها بل يحترمها عقلاً وكياناً ومحاورةً، وفي النهاية تجد ذلك الشخص الذي تنطبق عليه المواصفات، وهو أستاذ الفلسفة المحاضر في الجامعة، والذي كان يفسح لها المجال من أجل مناقشته في أمور علمية، يبتسم لها وتبتسم له، تقرأ مزيدًا من كتبه ثم تأتي إليه لتناقشه فيما قرأته، فنالت إعجابه، وبدأت شيئاً فشيئاً تتقرب إليه حتى تعرفت عليه، وذات يوم طلبت منه أن يستضيفها في صومعته العلمية في بيته، وكانت دائماً تلح عليه وتخلق الفرصة المناسبة كي يستضيفها في بيته أكثر مما كان يفعل هو، وعند مجيء ذلك اليوم، بدأت تستعد وتزيين، وتختار أجمل الثياب كي تقابله بأجمل وأبهى صورة، لكن أثناء اختيارها لإحدى ملابسها كانت تفكر في حق المساواة وهذا آخر ما قرأته في كتب الفلسفة، وراحت تفكر أيضاً مثلها مثل أي فتاة بأن الجلوس مع رجل وحده في بيته ليس لأجل أمور علمية بل من أجل شيء آخر، ولكنها تركت تلك الأوهام والأفكار وتمسكت بشيء لا يفارقها دائماً وهو “الثقة بالنفس”، فهي تثق بنفسها أنها ذاهبة من أجل هدف رسمته في مخيلتها، وتنطلق تلك الفتاة إلى موعدها، وكانت طوال الطريق محتارة وقلقة كيف تبدأ الكلام؟ وماذا ستتحدث؟ وعند وصولها إلى بيت الأستاذ فتح لها الباب ورحب بها، وعندما جلست على إحدى مقاعد المنزل أخذت تحدق بعينيها إلى سقف البيت لمدة ثلاث دقائق تقريباً، فكانت متوترة حائرة ماذا ستقول، فكانت تنتظر أستاذها أن يبدأ بالكلام كي يزيل عنها هذا التوتر، لكن يبدو أن هذا الشخص أدرك أنها أتت له من أجل شيءٍ آخر، فهو لم يرها الفتاة المثقفة التي أتت لتناقشه في أمور علمية بل رآها الفتاة العادية، فأخذ يضع يديه على كتفيها، وأخذ رأسه يدنو من رأسها، وقال لها بصوت خفي: “هل جئتِ لأحدثكِ في الفلسفة؟”، وهوى على ثغرها “فمها” يقبله، في تلك اللحظة انشرخ المخطط الذي رسمته الفتاة في مخيلتها، وضاعت أحلامها التي ما زالت تحلم بها طوال حياتها في تلك اللحظة، فأصبح الظل التي تبحث عنه ما هو إلا ظل وهمي لا وجود له.

ويبقى السؤال هنا هل هذه الفتاة سمحت له بأن يقبلها أم سخطت “رفضت”؟ هذه هي النهاية المفتوحة التي تركتها الكاتبة؛ لتجعل القارئ يبحث بنفسه عن الحل، وهذا ما يترك نوع من الإثارة والتشويق في نفس القارئ.

نلاحظ من خلال هذه القصة أن الكاتبة ركزت بشكل كبير على شخصية الفتاة أكثر من تركيزها على الحدث نفسه، كما اعتمدت في هذه القصة على أسلوب التحليل النفسي لشخصية الفتاة، والغوص في أعماقها؛ للكشف عن خباياها وعمَّا يجول في خاطرها، والكشف عن ردود أفعالها التي كانت تصدر منها.

ونلاحظ أيضاً كثرة التساؤلات التي طرحتها الكاتبة في القصة، والتي كانت تجيب عنها بنفسها نيابة عن الفتاة وكأنها تعيش في أعماق تلك الفتاة، تعلم ما تشعر وتفكر به، وهذا ما يسمى بأسلوب التحليل النفسي الذي اعتمدت الكاتبة عليه في القصة، وهذا ما تمثل في قول الكاتبة:

لتكن صريحة مع نفسها على الأقل وتعترف، ألم تحس بحدس الأنثى، بأن الجلسة في بيت رجل قد لا تكون خالصة لوجه الأدب والفلسفة ؟ بلى أحست …

تراه ألح في دعوتها؟ لا لم يلح أكثر من إلحاحها نفسها في أن تخلق الظرف المناسب لتأتي المبادرة منه …

ولكن لماذا؟ ألم يكن في طاقتها أن تحدثه في النادي وتناقشه في آخر ما قرأت له دون أن توحي إليه بأنها تشتاق أن تتحدث في مكان هادئ في صومعة علم مثلاً؟ بلى كان في طوقها.

ولاحظنا دقة الكاتبة في وصف كل تحركات الفتاة فهي تحاول أن ترسم لنا لوحة فنية متكاملة عن هذه الشخصية بكل تفاصيلها الدقيقة، وتحاول أن تجعل القارئ يعيش مع هذه الشخصية أجمل اللحظات التي تسعى إليها بتحركاتها، وتفكيرها، وثقتها بنفسها وغيرها الكثير، وهذا ليس بجديد على الكاتبة سميرة عزام، فهي تمتلك القدرة على سلب أعماق النفس البشرية حيث تثير عواطف القارئ وتجعله يتأثر بالشخصية، وبهذا تدفعه للبحث عن سبل الحل لمساعدة تلك الشخصية، وتقديم يد العون والنصح والإرشاد لها، كما أنها تترك في كل مرة أثراً كلياً في ذهن القارئ بعد قراءة كل قصة.

كما أن عنصر الحوار كان حاضراً في النص، فهناك المونولوج الداخلي “الحوار الداخلي” الذي جرى بين الفتاة وذاتها، والمونولوج الخارجي “الحوار الخارجي” الذي جرى بين الفتاة والأستاذ، وهذا ما ستراه عزيزي القارئ عند قراءتك للقصة.

 

وختاماً يمكننا القول: يبدو أن الكاتبة أرادت من خلال هذه القصة أن تعكس صورة المرأة المثقفة المتعلمة وكيفية نظرة المجتمع إليها، حيث ينظر إليها على أنها امرأة عادية، مهملاً دورها العلمي والثقافي، فهي لم تأخذ مكانة مرموقة في مجتمعها الذي تعيش فيه، محرومة من أبسط حقوقها التي من المفترض أن تمارسها بأريحية، تفقد كل أحلامها وأمنياتها وسط هذا المجتمع الظالم، ليس لها أي قيمة إنسانية، ويبدو أن الكاتبة ذاقت تلك التجربة والمعاناة، فهي لم تكتب من فراغ بل كتبت بفعل معاناة حقيقة خاضتها وذاقت مرارتها، فالكاتبة لم تتلقى اهتماماً كبيراً من قبل مجتمعها رغم مكانتها العلمية المرموقة، فهي أديبة من المرتبة الأولى، رغم كل ذلك لم تلقَ كتاباتها اهتماماً كبيراً من قبل النقاد والأدباء، التي كان من المفترض العناية بها وتدريسها في كل مكان وزمان، فأعمالها الأدبية تستحق منا القراءة والدراسة والنشر والاهتمام، فهي تتناول قضايا اجتماعية تمس واقعنا الفلسطيني من فقر، وبطالة، وحصار، وظلم، وذل، وغيرها الكثير الكثير، لذلك يجب علينا كنقاد، وأدباء، ودارسين، أن نعطي اهتماماً كبيراً لأعمال سميرة عزام، بل لكل امرأة مثقفة في مجتمعنا هذا، فهنَّ يستحقنَّ منا الكثير من التقدير والاهتمام.

زر الذهاب إلى الأعلى