ثقافةمقالات

الناقد محمد البوجي يكتب: جواد العقَّاد وقلق الانتماء

جواد العقَّاد وقلق الانتماء

بقلم: د. محمد البوجي/ أستاذ الفكر والأدب 

يبدو أن شاعرنا تنتابه حالاتُ القلق بين الفينةِ والأخرى، بل أقول لقد تلبَّستْه حالةُ القلق الوجوديِّ والقلق الانتمائيِّ، وكلاهما متلازمان في نفسيته، فالقلقُ الوجوديُّ هو سرُّ الكتابة عند كثيرين في فلسطين والوطن العربي.

نلاحظ في الديوان تردد الشاعر بين طبقاتِ الحياة الخفيَّة والواقعيَّة، أيهما يختار؟ هو لا يدري، فقد سيطرتْ الحيرةُ في الانتماء على مُجْمَلِ قصائد الديوان والمفاصل الفكريَّة فيها. تبدأُ هذه الحيرة بعناوين القصائد عن الماضي الخفيِّ الذي انتهى ويستحيل إعادة تدويره فكريّاً، ربما يكون نوعاً من العتاب على الفراهيدي الذي وضع القيود الشعريَّة، ولا زال بعضهم يتبنَّاها بل طوَّرها إلى قيود على الكلمة والرأي، والحركة أيضاً، هذا ما يُفسِّر الإهداء الثاني في الديوان:

“إلى الفراهيدي: عليك أن تبتكر لعبة أخرى للنجاة..” هل المقصود هنا الفراهيدي شخصيَّاً أم الذين يقدِّسون قواعده، ويتَّخِذون منها منطلقاً للتكفير والاستبعاد، كما يفعل بعض السلفيين الآن.

 

ينتقل شاعرنا إلى أبي نواس، شاعر الخمر والضياع، المتمرد على واقعه حدَّ الشُّعور الدائم بالاغتراب، لم يعجبْه واقعه فقال ما لم يقلْه الأولوَّن. إنه الشُّعور الذي تلبَّس الشاعر العقاد وصار جزءاً من حياته لا ينفصل عن أناه، محاولاً سبرَ أغوار نفْسه بالجديد من الشِّعر؛ فكان الإهداء الأول في الديوان إلى “امرأة البياض”، إذ إن شاعرنا بحاجةٍ إلى امرأةٍ صوفيَّةٍ صافيةٍ لا تُعكِّر صفو حياته الشعريَّة، تراه يربط بين امرأة البياض والوحي الشعريِّ وحالة الكشف التي تعترِي الشاعر الصوفيَّ، كما في عناوين بعض قصائد الديوان التي تَعْمد إلى اللغة الصوفيَّة المراوِغَة في الدلالة.

يقول: “هذه ليست امرأة

بل عزفة الرب الأولى على ربابة الانشاء

وحكمة نبي لم يؤمن به أحد، يا موسيقا الرب..” يتجلى هنا “الحلاج” لكن بصورةٍ أقل؛ خوفاً من أتباع الخليل في قواعد القمع المُقدَّسة الذين لا يدركون تجليات الوجع. ونحن ندرك تماماً حرص شاعرنا على ذاته من هؤلاء، لو كانت الروح مقدسة بلا قمع ربما انطلقَ نحو فضاء الحلاج أكثر. إنها فلسفةُ حياةٍ نحو صوفيَّة واقعيَّة تتحسَّس واقع الوطن المغتصب، وحياة الفلاح الفلسطيني.

 

الشِّعرُ فضَّاحٌ لنفسية الشاعر وأفكاره، يُظهرُ مخبوءه دون أن يدري، لأنَّه لحظة الإبداع يكون في غيبوبة زمكانية، حيث اشتعال المشاعر وخفقان القلب والروح نحو خيال شعري يُصادر الأفق.

شاعرنا اتخذَ من الصوفيَّة ملجأ له، وهو التقاء السماء بالأرض. والصوفيَّة تعني صفاء القلب وبياضه، لهذا جاء العنوان “مقام البياض” وهو عنوان صوفيٌّ محايدٌ في الانتماء، يُريح النفس من القلق الانتمائيِّ. المقام في العنوان ليس دلالة المقام الموسيقي بقدر ما هو مقام المكان النفسي للارتياح من الخوف الانتمائي والزمكاني، هي الصوفية حيث اعتزال البشر والارتقاء بالروح إلى عوالم خفيَّة تتجلى فيها روحُ الشِّعر والتمرد على اللغة، فإنَّ أكبر حالة تمرد على اللغة كانت الصوفيَّة، التي استفادت منها السوريالية العالمية.

 

شاعرنا غيمة سابحة في فضاء الله بيَّنَ شعوره وتألمه، حيث تسكنه هواجس وتتلبَّسه أشباحُ الاغتراب حدَّ اللعنة والجنون. نراه يدور حول نفسه، وهذه في حدِّ ذاتها إيمان جديد بالله عن طريقِ القلب، يمتلك قلباً صافياً عارفاً بالله فيدور حوله ليرى الله صافياً لا كما يراه “أتباع الفراهيدي” بقوانين العنف والقتل، ونراه أحياناً يتمثل آلام طريق المسيح في قصيدة “آلام طريقي”، يقول: “أمشي على نزفي، لا إله يرفعني إليه، لا نبي يبشرني بالقيامة”.

 

بين أيدينا ديوان صغير في حجمه، كبير في دلالاته التي لا تنتهي، ديوان شعري يمثل روح الفلسطيني الآن، حيث يشعر بالوحدة والاغتراب أكثر من أي وقت مضى. يقول في قصيدة المدينة: “أجلس وحيداً مع المدينة، أحفر قبري في رحابة وجعها، أضيع في ضياعي..” يشعر القارئ الفطن بالآلام الحادة، وهو يعيش حالة شعريَّة مفعمة بكل هواجس الكون وكوابيسه، حالة فريدة يعيشها الفلسطيني داخل الارض المحتلة بين مطرقة الاحتلال وسندان حاكم يدَّعي القداسة باسم الرب، يتخذ من قُدسِيته وسيلة للظلم والقمع وطمس الماضي النضالي بطرق لم يعهدها التاريخ العربي من قبل، جسدها الديوان -في قصيدة “المدينة” تحديداً- بشعريَّة حاذقة.

شاعرنا كبير في قصائده وأفكاره، وسورياليته الصوفيَّة. ديوان يستحق قراءات معمَّقة حقاً، أحييه على إنتاجه الشعريِّ الثري المتواصل، إنه يؤسِّس لحالةٍ شعريَّة جديدة في فلسطين، قد تُمثل حياة جيل شبابيٍّ فَقدَ قادته البوصلة، جيل يعيش تيهاً متواصلاً دون نموذج يُحتذى. إلى الأمام دوماً نحو التجديد بما يناسب المرحلة.

الأستاذ الدكتور                                                               محمد بكر البوجي

رئيس جمعية النقاد الفلسطينيين

زر الذهاب إلى الأعلى