ثقافة

أسئلة أبي تمام ومُبكيات البردوني.. بقلم: جبر شعث

أسئلة أبي تمام ومُبكيات البردوني

بقلم: جبر جميل شعث/ شاعر وناقد 

يعد الشاعر عبدالله البردوني، رحمه الله، من الشعراء القليلين، الذين ظلوا محافظين على شكل القصيدة القديم، وفي الوقت نفسه جددوا في موضوعاتها، وفي معمارها (والمصطلح الأخير للشاعر والناقد عز الدين إسماعيل) ويقصد به بناء القصيدة، حيث أقاموا علاقات لغوية جديدة على مستوى الدلالة والشكل التعبيري والصياغة الشعرية، كل هذا مع محافظتهم الصارمة على النظام البيتي والإيقاع التقليدي. والبردوني الذي كان يتابع كل جديد في حركة الشعر العربي المضطربة، ويقرأ الأدب العالمي المترجم، أفاد من قراءاته في شعره، فنجده، جدد في اللغة وفي الصورة وفي المجاز، ووظف تقنيات السرد في قصائده التي صاغها قصصًا شعرية، وكذلك الحوار والدراما، خاصة في ديوانيه: “مدينة الغدو” و”جوه دخانية في مرايا الليل”. فالبردوني، بهذا يعتبر شاعرًا حداثيًا، بالمعنى الحقيقي التأسيسي للمصطلح، وبالتصور العربي للحداثة التي أسس لها بشار بن برد وأبو تمام وأبو نواس، ونظر لها عبد القاهر الجرجاني والجاحظ، ويقدم درسًا جادًا واعيًا لأولئك السطحيين، مشتتي الدلالات، ومعدومي الرؤى الذين يختزلون الحداثة في الشكل، وهم في الحقيقة، لا شكل لديهم ولا مضمون.

أبو تمام وعروبة اليوم:

كتب البردوني قصيدة “أبو تمام وعروبة اليوم معارضاً بها بائية أبي تمام الشهيرة، “السيف أصدق إنباءًا من الكتب”، التي قالها في فتح “عمورية”، والقصيدة موجودة ضمن ديوانه “لعيني أم بلقيس” وقد قرأها البردوني في أحد مهرجانات مربد العراق العظيم، ورغم أن القصيدة مكتوبة في سنة 1971م، الا أنها تنطبق على حالنا اليوم، فمنذ أن كتب البردوني قصيدته وحتى اليوم والليل العربي يزداد ثِقَلاً واسوداداً، ليل طويل كليل امريء القيس، بطيء الكواكب كليل النابغة. …كأن البردوني يكتب قصيدته اليوم.

ما أصدقَ السيف َ! إنْ لم يَنْضِهِ الكَذِبُ وأكذبَ السيفَ إنْ لم يصدق الغضبُ

بيضُ الصفائحِ أهدى حين تحْمِلُهَا أيدٍ إذا غَلَبَتْ يعلو بها الغلبُ

هكذا يبدأ البردوني قصيدته، منوعًا على ألفاظ أبي تمام، ومضيفًا على معانيه معانٍ أملتها مقتضيات الحال العربية الراهنة، والتي تختلف عن تلك الحال المشرقة التي كانت على زمن أبي تمام. ثم يسفه الشاعر البردوني الغربيين وحضارتهم المادية الزائفة، وينعت علمهم الذي استخدموه في الشر واغتصاب أراضي الغير وفي صنع الموت وتصديره إلى الشعوب المستضعفة بالجهل، ويصفهم بأنصاف الناس، وان ادّعوا الرقي والمدنية:

أدهى من الجهلِ عِلْمٌ يطْمَئِنُّ إلى أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلمِ واغْتَصَبُوا

قالوا: همُ البشرُ الأَرْقَى وَمَا أَكَلُوا شيئاً.. كما أكلُوا الإنسانَ أو شَرِبُوا

ويسأل أبو تمام شاعرَنا… ماذا جرى؟ ويروي له البردوني، ولكنه يسأله أن يعفيَه من ذكر الأسباب، فعلوج الروم عادت واغتصبت الأرض العربية، وسلبت الإنسان كرامته، بل وشوهت ثقافته، وحقنته بجرعات من ثقافة الاستلاب والاستهلاك والتسطيح والنسيان. وماذا فعل الرجال؟ لاشيء، سوى الغضب المفتعل، والخطب الجوفاء المضللة، وإنابة الأبواق لتقاتل عنهم، ومنهم من ماتوا كالبعير ومنهم من هربوا.

وماذا فعل الحكام؟ يفرشون لجيش الغزو أعينهم، ويخدعون شعوبهم بالكلام الكاذب والشعارات الزائفة والبيانات المضللة، ويدّعون البطولة وهم قعودون يرفلون في عجزهم. هم حكام ولكن مرجعية حكمهم هناك في “واشنطن”، أليس هم الذين أتوا بالأجنبي، بل توسلوا إليه أن يأتي، واقتطعوا له أجزاءً من الأرض والبحر والسماء، ليقيم قواعده العسكرية، والثمن هو: حمايتهم من شعوبهم، والحفاظ على عروشهم وكراسيهم.

ويسأل البردوني أبا تمام عن أنساب وأحساب العرب، هل هي كاذبة؟ أم أن العرب نسوا أو تناسوا عرقهم الأصيل؟ فقد يحدث أن يتناسى عرقه الذهب! فعروبة اليوم مختلفة كل الاختلاف عن عروبة زمن أبي تمام، فهي اليوم بلا اسم ولا لون ولا لقب.

في يوم فتح عمورية كان العرب تسعون ألفاً، اشتعلت شعلة واحدة، ولم يعبأوا بقول المنجمين، ولا برأي نفر من القوم، اقترحوا إرجاء المعركة لحين انتهاء قطاف الكروم، لكن حكمة الحاكم وإقدامه آنذاك، وشجاعة ومروءة المحكومين جعلتهم ينطلقون شهبًا ويلتهبون حماسة قبل أن تنضج العناقيد. واليوم، أمة العرب تعد تسعين مليونًا ونصف، والحكام يتحججون مرة بالتوازن الاستراتيجي، ومرة بإمكانية التسوية السلمية مع أعداء الأمة الحضارية، ومرة بانتهاء موضة الحرب. وهل نحن أمة تسعى إلى الحرية؟ إننا أصحاب حضارة ذات أقانيم ثلاثة: السلام والحب والعدل. ولكن إذا اعتُدي علينا واحتُلت أرضنا، بل سُرقت بمباركة ومشاركة العالم الذي يدعي الحضارة والإنسانية والتباكي على حقوق الإنسان… والحيوان، فعلينا أن ندافع عن أنفسنا ونذود عن أرضنا وعن مكوناتنا الثقافية والحضارية.

تبدد الحلم واغتراب الشاعر:

الحلم وقود الشاعر، والقصيدة بنت الحلم، والشاعر يسعى دوماً لتحقيق حلمه/الرسالة التي يعيش بها ولها، ولكن حلم الشاعر/النبي هيهات أن يتحقق بدون مخاض التجربة العسيرة وآلام المعاناة والصدمة التي تهوي بالحالم إلى “اللاجدوى” وتشتته في متاهات الجنون. والشاعر البردوني الذي حمل حلمه بين ضلوعه كالبشارة، يشكو لأبي تمام من تبدد الحلم وضياعه، فالبعث المرتجى لم يأتِ والغيث المنتظر لم ينزل… والوطن الأجمل أُبتلي بالسل والجرب، بل بالجذام مثل روضة حبيبة وضاح اليمن الذي كان موته تراجيدياً، فقد أحبته أم البنين زوج الخليفة الوليد بن عبد الملك، وعندما اكتشف أمره في ساعة وصل خبأته في صندوق… وعندما عرف الخليفة أخذ الصندوق ورماه في بئر كانت تحت بساطه، ورغم قتامة المشهد ومأساويته إلا أننا نجد الشاعر متشبثًا بحلمه الذي يراه ينأى ويقترب:

ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟ مليحة عاشقاها السلّ والجربُ.

ماتت بصندوق وضاح بلا ثمنٍ ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ.

كانت تراقب صبح البعث فانبعثت في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقبُ.

لكنها رغم بخل الغيث ما برحت حبلي وفي بطنها “قحطان” أو “كربُ”.

وفي أسى مقلتيها يغتلي “يمنٌ” ثانٍ كحلم الصبا، ينأى ويقتربُ.

ويوغل البردوني في اغترابه، فهو في شفاه الريح شبابة حزينة تنتحب، وهو يغبط أبا تمام؛ فقد كانت بلاده واسعة بلا حدود وبلا قيود، أما هو فبلاده محددة ولا ظهر لها.

وربما يتجاوز البردوني أبا العلاء المعري في تشاؤمه وتبرمه من الوجود، بل وفي اعتقاده بعدميته:

لكن أنا راحل في غير ما سفرٍ رحلي دمي وطريقي الجمر والحطبُ.

إذا امتطيت ركابًا للنوى فأنا في داخلي أمتطي ناري وأغتربُ.

قبري ومأساة بلادي على كتفي وحولي العدم المنفوخ والصخبُ.

أسئلة أبي تمام ومبكيات البردوني:

كأن أبا تمام هبط من زمانه الغابر الجميل إلى زماننا الراهن القبيح، فأنكر ما رأى واستهجن ما سمع، وجعل يسأل: ماذا ولماذا وكيف؟ يسأل البردوني الذي يغص بألف مبكية، ولا يستطيع البوح إلا ببعضها:

“حبيب” ما زال في عينيك أسئلةً تبدو وتنسى حكاياها فتنتقبُ

وما تزال بحلقي ألف مبكيةٍ من رهبة البوح تستحيي وتضطربُ

يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا ونحن من دمنا نحسو ونحتلبُ

ويختم البردوني قصيدة “أبو تمام وعروبة اليوم” ببيتين يبدو فيهما الرجاء والتفاؤل بمستقبل مشرق لهذه الأمة التي طال ليلها وأوغلت في السقوط:

سحائب الغزو تشوينا وتحجبنا يوماً ستحبل من إرعادنا السحبُ

ألا ترى يا “أبا تمام” بارِقَنا (إنّ السماءَ تُرَجّى حين تحتجبُ)

ولكني أرى أن (ضرير بردون) وبناءً على المشهد السابق، غير مؤمن بهذا الرجاء، وغير واثق بما هو آتٍ، وهو وإن أمَّل أبا تمام بالبارق، إلا أنه يدرك بأن البرق دون رعد، وأن احتجاب السماء لا مطر وراءه، وأزعم أنه ارتأى أن يختم قصيدته بمشهد الخصب والبعث هذا، من باب رفع الشعارات والنهايات السعيدة ليس إلا…

هذا، ولم تكن مخاطبة ومعارضة البردوني لأبي تمام من باب الصدفة أو الاعتباط، فالقارئ لنتاج هذا الشاعر المجدد الكبير يدرك مدى إفادته من تجارب الشعراء الذين كسروا عمود الشعر وجددوا في القصيدة العربية على مستوى اللغة والدلالة والصورة، كبشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وغيرهم، والمتعمق أكثر في قراءة البردوني يلمس تأثير أبي تمام الواضح في طريقة التعبير الشعري لديه – وهذا لا يعني مطلقًا اجتراره أو تقليده – خاصة في الخروج على العمود الشعري وفي موقفه من المحسنات البلاغية وفي اللغة والصورة، حتى أنني أستطيع أن أجتهد في غير ما تردد، بأستاذية أبي تمام للبردوني، وأحسبه، رحمه الله، معترفًا، فخورًا بهذه الأستاذية الفذة.

زر الذهاب إلى الأعلى