ثقافةمقالات

رواية مدينة الله: تجليات المكان ومعاناة الإنسان في القدس

رواية مدينة الله: تجليات المكان ومعاناة الإنسان في القدس

هيئة التحرير 

رواية مدينة الله للروائي الفلسطيني المقيم في سوريا، صدرت طبعتها الأولى عام 2009م عن “المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر”.

مدينة الله، نعم إنها مدينة الله، مدينة الرب، إذ ارتبطت مدينة القدس في الوجدان الديني بالقداسة والطهارة والألوهة. ولعل هذا الارتباط أشد عمقاً من مدن مقدسة أخرى مثل: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت لحم، والناصرة. لأن قدسيتها في الأديان السماوية كافة. وهي محور الالتقاء بين الأرض والسماء، ومهد الديانات السماوية وأيقونة التسامح والمحبة والتعايش، من هنا كان الروائي موفقاً في اختيار العنوان.

وإن القارئ لحياة حسن حميد يعرف أنه لم يعش في القدس وهو يعاني مرارة المنافي وقسوة الذاكرة، ومع ذلك فإن استطاع أن يكتب عن القدس وأهلها ونكتها المقدسة وثقافتها؛ لأن البلاد تعيش فيه، في عقله ووجدانه وجوارحه، شأنه شأن كل مُغترب فلسطيني.

والمكان- كما يقولون نقاد الرواية- ليس مكاناً جغرافياً محايداً بل له أبعاد دلالية ترتبط بالشخصيات وغيرها من عناصر العمل الروائي، نعم، إنه في رواية حميد يتجاوز ذلك ليتوحد مع عاطفة الروائي المضطربة، دائمة الحنين للوطن، للقدس. الروائي حميد دائم البحث عن الذات.. عن فكرة الوطن الهلامية، والتي تجلت بوضوح في مدينة الله.

الوعي بأهمية المكان رغم تأزمه أنشأ حالة من التحدي والمقاومة، فالانتماء الوطني ليس ارتباطا بالمكان بقدر ما هو تمسك بالهوية الثقافية، الروائي لا يكترث لوصف المكان إلى حد ما بل ينشغل في رسم الشخصيات ما وهذا تلقائياً خدم المكان لأنه هو البطل والهاجس عند الكاتب وشخصياته.

وحسن حميد عنده في هذه الرواية وغيرها تجليات خاصة للمكان تستحق الوقوف عليها بالدرس والتحليل، لأن الصراع مع النقيض الاحتلالي هو في المقام الأول على المكان بأبعاده المختلفة الثقافية والدينية والاستراتيجية.. وجوهر الصراع هو مدينة الله.

وقد شكل السجن الإسرائيلي تجلياً مهماً للمكان في الرواية، بوصفه مكاناً غير مألوف، فالسجن يشكل عاملاً مخوفاً، وتجربة يهابها كثيرون. فهو مكان معادي بما يتجاوزه من تحقيق وتعذيب وإهانة وإذلال، وقد استغل الروائي الأثر النفسي لهذا المكان، إذ يقول على لسان سيلفا:” لا أدري كيف قادتني المقادير كي أكون في عالم لم أُخلق له. وأن أتعامل مع مخلوقات قهرها الزمان، وخانتها الحياة.. فالسجون مقابر حقيقية. ظلم وقهر، وإماتة، حياة مرفوعة إلى آجال غير مكتوبة، روائح، وقرف، وأذيات متكاثرة كالفطر، حيطان كالحة باهتة تقف ببلاهة وسذاجة، ونوافذ صغيرة عالية لا تعرف التلويح، ولا السلام، نوافذ جرداء، خرساء لا نباتات لها ولا عصافير، لا شيء يجاورها لا عشب ولا ماء، نوافذ مأسورة مشدودة إلى قضبان الحديد، وبشر رموا إنسانيتهم على أعتابها ودخلوا إليها، مكان لا قوانين له ولا ثوابت سوى سلب الآخرين آدميتهم.. مكان ملعون ورجيم”.

هذا الوصف الموجع للمكان أليس من شأنه إبراز معاناة المسجونين وبشاعة الاحتلال، لهذا أنا أدعو إلى ترجمة هذه الرواية؛ لأنها عن القدس أولاً، ولما فيها من أنسة للقضية الفلسطينية، واليوم نحن بحاجة ملحة لأنسنة أدبنا الفلسطيني، صحيح أن الفلسطيني صامد في أرضه ويصنع الأسطورة لكنه في النهاية إنسان.

تكشف الرواية من خلال العرض الموضوعي لنماذج بشرية جذور المأساة الحقيقية في تشبث فريق من الشعب الفلسطيني بخيالات الماضي وتعلق آخرين بأحلام المستقبل، في حين يخضعون جميعاً للاستغلال والخداع حتى أكثرهم وعياً بالواقع.

الرواية فنياً، رسائل كتبها بطل الرّواية “فلاديمير” لأستاذه “جورجي إيفان” في بطرسبورغ، إلا أن موظفة البريد اليهودية تحتفظ بها تخرجها بعد أربعين عاماً، وهذا الشكل الفني للرواية يُذكرنا برواية المتشائل لإميل حبيبي، وهو بلا شك محاولة خروج عن النمط الروائي السائد تُحسب للروائي حميد.

زر الذهاب إلى الأعلى