ثقافةمقالات

جماليات التكرار الصوتي وأثره في الكتابة الفجيعةعند الشاعر جبر جميل شعث

جماليات التكرار الصوتي وأثره في الكتابة الفجيعة

                                                                                

عند الشاعر جبر جميل شعث ديوان أ.ب، أنموذجا*

أ د رحمون بلقاسم

استاذ الأدب والنقد بجامعة العربي التبسي / الجزائر

 

ملخص يتناول هذا المقال حديثا عن جماليات التكرار الصوتي وأثره على كتابة الفجيعة عند الشاعر الفلسطيني المعاصر )جبر جميل شعث(، من خلال ديوانه الشعري “أ  – ب”، وهي تجربة شعرية منطوية على ذاتها وتنغلق على نفسها وتجبر مشاعرها داخل ذاتها المرتبة المتأسية، فهو  شاعر لا يفصح عن مكونانته بسهولة بقدر ما يطبق بذاته على تجربته ليجعل القارئ يبحث عن الوسائل والآليات التي يحلّ بها شفرات نصّه الشعري، وقد حفل ديوانه بظواهر أسلوبية منها ظاهرة التكرار الصوتي الذي شكّل جمالية شعرية في هذا الديوان، وأثر أيضا أشباه الصوائت )اللام والميم والنون والراء( من جهة ثمّ أصوات المدّ )الألف والياء والواو( من جهة ثانية، ثمّ أصوات الجهر والهمس من جهة  أخرى في تناغم صوتي وإيقاعي داخلي أسّس لمنظومة إيقاعية ميزت القصيدة عند الشاعر .

 

 

مقدمة  

إن الحديث عن الشاعر الفلسطيني جبر جميل شعت يجرنا إلى الوقوف عند تجربة شعرية فريدة؛ ذاك أن الشاعر من الشخصيات الأدبية والفنية التي تنطوي على ذاتها، وتتغلق على نفسها، وتجتر مشاعرها داخل ذاتها الحزينة المتأسية ،لذلك لا يفصح الشاعر عن مكنوناته بسهولة وبشكل مباشر، بقدر ما يطبق بذاته على تجربته ليجعل القارئ يبحث عن الوسائل والآليات التي يفك بها شفرات نصه الشعري، فالمهمة ليست بالسهلة إزاء تجربة شعرية منغلقة على نفسها تحفر في ذاتها، فتخرج لنا شعرية صامتة، وجمالية لا يتحسسها إلا من عرف شخصية جبر جميل شعت من الداخل ،وأقصد الشخصية الفنية الأدبية بشكل خاص .

فنحن أمام تجربة فريدة في الشعر؛ وأنت تقرأ للشاعر وكائي به يعمد إلى إخفاء مكنوناته وعدم التصريح بمشاعره والانطواء على ذاته المكلومة والمفجوعة والحاملة لقضية وطن وشعب وهوية وتاريخ، وهذا التواشج العميق يفضي إلى اكتناز التجربة الشعرية للمبدع جبر جميل شعت، فهذه التجربة المميزة للشاعر، ترجع إلى تلك الروح الشعرية التي يبطنها الشاعر من جهة ثم كتابة الفجيعة العميقة بذات متأملة ومتقصية تنم عن وجود فلسفة حياتية مركزة ومقطرة لا تعثر فيها على الشاعر مثلما نعثر عليه في أشعار أخرى لشعراء آخرين، حيث أن «جبر جميل شعت يتعمد غيابه، ويراقب الوسط الأدبي ،وذلك لأن الوسط حالة من التيه العام، وفقدان الوجهة، يركن جبر شعت إلى عزلته، الفردية الاختيارية. كوعي تام بحال العزلة السائدة لدى جيل يفقد كل يوم عضوا آخر من جسد هويته وأحلامه … غير أن جبر يختار أن تكون عزلته مغايرة ،تلك العزلة التأملية الشقيقة، فينتزع ذاته من المجموع ليتجه إلى فرده، يضع نفسه في مواجهة مع النفس، ويبدأ في إعادة قراءة العالم من خلال كشفه لتعرجات الذات»

وبما أن المنهج الأسلوبي بجميع اتجاهاته التي ذكرناها سابقا ينطلق من استنطاق اللغة بدءًا بالحرف والصوت ثم اللفظ والمعنى والتركيب فالدلالة، فإن ديوان جبر جميل شعت يطفح بالظواهر الأسلوبية التي تفصح عن شعرية (كتابة الفجيعة)، وهو ما يفتح لنا المجال على الآفاق الواسعة والرخية، مما يجعلنا نتكيء على هذه الاتجاهات الأسلوبية لنستثمر من خلالها ما هو ثاو داخل دواليب الديوان الشعري المراد دراسته، «وكثيرا ما كنا نجمع بين عدد من هذه الاعتبارات لأن اتباع اعتبار واحد منها قد لا يكون كافيًا لاكتشاف ما نسميه (بؤرة القصيدة) أو دلالتها العميقة، والمهم دائما هو البدء بأبرز السمات اللغوية عساها تضعنا على أول الطريق الصحيح الفهم أسلوبي للقصيدة »(عياد ،1783) .

ونفهم من ذلك «أنّ الدارس  الأسلوبي يأخذ بعين الاعتبار كل ما يحيط بالنص، فيحاول أن يستثمر إجراءات وآليات هذه الاتجاهات الأسلوبية بشكل عام ليصل إلى دراسة متكاملة شاملة» (رحمون، 2019).

ونحن إزاء دراسة ديوان شعري من هذا القبيل، يجدر بنا أن لا نأخذ باتجاه أسلوبي واحد، لأن ذاك قد يضيق علينا مجال الدراسة، ولا يعطينا الحرية الكافية للقبض على مختلف الظواهر الأسلوبية المائلة في الديوان؛ إذ أن « فرض اتجاه أسلوبي بعينه على النص يمثل إحدى المخاطر ويضعنا أمام إشكالية أخرى لأنه يحصر النص في دائرة ضيقة» (عيسى، د.س)

، وتدعيما لذلك، نجد أن «الاتجاه الأسلوبي الواحد لا يضيء  جوانب النص كله، ولا يرصد جوانبه وجمالياته بشكل مفصل وشامل ودقيق، ولذلك عندما تتوحد هذه الاتجاهات الأسلوبية…تمنح المقاربة الأسلوبية نجاعتها وفائدتها »  (رحمون ،2019) .

ونفهم من ذلك أن المتصدي لدراسة شعر جبر جميل شعت  يحتاج إلى قراءة أسلوبية ونقدية تعمل على الحفر في طبقات نصوصه الشعرية للوصول إلى مكمن جماليتها وأدبيتها، لكن ليس ذلك بالأمر الهين، فالنص الجبري في ظاهره نص مطواع بينما في باطنه صعب المراس وعويص الانقياد، حيث أنه «لا يكتب الشعر لكنه يمتلك خفة الشاعر، ولا يصبغ الحكمة لكنه يتكئ على بصيرة التأمل الحكيم ورغم كل هذه العزلة والتأمل الفردي المتجنب للمجموع، العارف بأسي الواقع الجديد غير أن نصوصه لا تتورط في تلك البكائيات البطولة ولا عرائض التشكي الممرض، إنه يصبغ كل أتعابنا بشجن طفيف »(شعث، 2017 ).

إن المتأمل في قصائد ديوان جبر جميل شعت، يمكنه أن يقف على جمرات متوهجة شاهدها بأم عينه، لأنه شاعر ليس فلسطينيا فحسب، بل شاعر غزاوي، فهو يكتب ذاته وفجيعته في خضم الواقع الغزاوي الذي يعيشه، عن طريق التأمل والتفكير بتقديم ما هو جديد في الإبداع الصامت والمخفي، إذ ينطلق من واقعه الإنساني ليستشرف المستقبل في نوع من الاتزان لا يخرج عن ما يحدث في واقع قضيته الفلسطينية، وما يوجد من تأثيرات خارجية خاصة السياسية منها، فقصائده الشعرية هي منفذه للتفريق بين ما هو ممكن وما هو مستحيل، وهذا الوعي الإبداعي هو حقل اشتغال الشاعر الذي يحتاج إلى أكثر من قراءة أسلوبية ونقدية ليفصح عن مكنونه الدفين، وتلك المعادلة الشعرية تحتاج إلى عدة أسلوبية تنطلق من أبسط حرف وصوت لترى أسرار التشكيل الأسلوبي والجمالي الكامن وراء ما يبوح به الشاعر، فما بالك بالتفاصيل الأسلوبية الأخرى على المستويات الصرفية والتركيبية والدلالية، «فالنص الأدبي المتمكن من أدبيته، لا يستجيب للتأويلات الخرقاء ،ولا   تتلفه القراءات المختلفة والمتباينة، لأن تنوع القراءات دليل على طاقته الأدبية . وهذه سمة من سمات بقائه وخلوده ،وإشارته لردود أفعال القراء» (الطرابلسي، بحوث في النص الأدبي، ط1، 1988).

فنحن أمام نصوص شعرية قصيرة من جهة، في قالب القصيدة النثرية ذات الأسطر الشعرية الموجزة، وهي بقدر ما نلحظه من سهولة وإنسيابية في بنائها السطحي الخارجي، بقدر ما نجدها تحمل من الدلالات العميقة، والجمل الشعرية المركزة التي تستعصي على القارئ لفك شفراتها، فنحن أمام تجربة شعرية فريدة لشاعر فلسطيني ينطلق في تجربته من ذاته ليعود إليها بعد مغامرة ورحلة يبوح فيها بأسراره، ويفضي بمكنوناته، ولكن بمجهود فردي لا يتكئ فيه على أحد فسمة الفردية والانطواء والانعزال والحفر في باطن الذات الشاعرة هي الغالبة على أشعاره  وهنا تظهر مكامن الصعوبة لولوج هذا الصرح الشعري الجيري ، فالمقاربة الأسلوبية لهذه النصوص «تحتاج إلى ولوجها بسلاح الشخصية المتميزة بالتحليل الأسلوبي الدقيق، والناقدة الفاحصة لكل مظاهر الجمالية الأسلوبية والمتحمسة لمواطن الجمال والأدبية، وذلك برصد السمات الأسلوبية المهيمنة…» (رحمون، 2019) .

فالمتتبع لشعر جبر جميل شعت، يحس بذلك الهدوء والسكينة والطمأنينة، وتلك الضوابط الصارمة واللغة الرصينة العقلانية والمنطقية، وكأني بهذه السكينة التي تنتاب الشاعر، شيء متأصل في ذاته ومتجذر في وجدانه، بشكل يثير دهشة المتلقي وتعجبه، فقد انطوى عالمه الداخلي على هذه الثنائية الضدية التي تحتاج إلى قاری متأمل يستطيع أن ينفذ بحاستة النقدية إلى باطن الأم والوقوف عند هذه الثنائيات الضدية بسبر أغوار ها والولوج إلى أعماق الذات الشاعرة ونفسية المبدع «وإن حاول شعت كل ثقله اللغوي أن يتحاشی خروج يأجوجه ومأجوجه إلا أنه لا…سور الحياة الفكر » أكرم أبوسمرا، 2009 .

إن قصائد جبر جميل شعث هي قصائد متمردة، لذلك نجد بداية التمرد والعصيان تتطبق من الثورة على النمط الشعري الذي يكتب بقالبه، فالقصيدة النثرية عنده شبهه دون سائر الشعراء الذين يكتبون ويبدعون بهذا القالب الشعري الحديث والمعاصر؛ «ولعله من القلائل تنسب قصيدة النثر لديهم إلى مراجع النثر الأولى  وإلى آيات الشعر الكبرى التليدة …ولكنه انتساب بطعم العصيا ن… ونكهة التمرد ..العصيان الذي يوسع ولا يضيق ..والتمرد الذي ينفتح ولا ينغلق الذي يضيق ولا ينقص ..الذي يحفظ كرامة الضاد في زمن جرى فيه التطاول عليه من القصار ومن الميكروسكوبيين…»  (أكرم سمرا، 2009) .

فالشاعر جبر جميل شعث، من بين الشعراء القلائل الذين يتقمصون قصائدهم ويشهد ونها  فتأتي قصيدة النثر على أيديهم كتابة إبداعية فريدة وخاصة، يظهر ذلك من ملامحها التي تصطبغ بألوان مميزة تميز الشاعر جبر جميل شعت، إن شاعرنا لا يغضب ولا يصيح ولا يلطم ولا يتضجر ولا…ولا …بل پسري بهدوء تام ليؤسس لهوية شعرية خاصة به، ومنها الحكمة التي تأتي في شعره شفافة منسابة من خلال إيقاعية تمزج الصناعة الشعرية من جهة، إلا أن الشاعر جبر جميل شعت لم يكن عبدا للذلة والعكس صحيح، بحيث كان التواصل بين الشاعر واللغة كان تواصلا إنسيابيا طبيعيا انطلق فيه الشاعر بحرية دون قيود تحده، وبالتالي حقق لشعره الاستمرار  والديمومة، ومن هنا نستشرف في قصائد جبر جميل شعت «الجمالية التي تجعل من القصيدة النثرية عملا فنيا إيداعيا خارقا، وهو ما تصبو الأسلوبية  بمقتضاها إلى جعل الظاهرة اللغوية ظاهرة جمالية »)الحلواني، 2004( .

وعليه فإن المظاهر الجمالية الماثلة في النص الشعري الجبري الشعثي، هي بمثابة ملامح أسلوبية اشتغل عليها الشاعر عبر المستويات المختلفة، وبالتالي نجد في الاتجاهات الأسلوبية المتفرعة فسحة وحرية للتجول في أروقة النصوص الشعرية في الديوان، والجميل في ذلك أننا نتعامل مع نصوص شعرية مركزة ومكتنزة في الآن نفسه برؤى وأفكار ودلالات ومعاني ،تضرب بجذورها في عمق التجربة الشعرية لجبر جميل شعت، وتحاول كذلك الحفر في ذات الشاعر المنطوية على عالمها الخاص، والتي لا تقول كل شيء بشكل مباشر، بقدر ما تبطن أشياء كثيرة، رغم الحضور الطاغي والمهيمن للذات الشاعرة في الديوان، ومع ذلك «هو لا يلجأ إلى التجربة العمياء في عالم أشهر علينا أنياب وقاحته…وغرس فينا مخالب سفالته »…

(أكرم سمرا، 2009) .

1– التكرار الصوتي وأثره في الكتابة الفجيعة عند جبر جميل شعت

إن ظاهرة التكرار الصوتي للحروف والكلمات لا تتأتي هكذا جزافا، بقدر ما أنها عنصر فاعل في النص الشعري خاصة، نظرا للأداء الإيقاعي واللغوي والدلالي الذي يضمنه هذا التكرار، وهو في اللغة «بمعنى الكز عليه ومنه التكرار » )الفراهيدي، 1982(، ونجد عند )ابن منظور( «الكر مصدره کرّ عليه؛ يكر كرًا وكرورا وتكرارا؛ عطف وكر عنه؛ رجع وكرر الشيء، وكرره؛ أعاده مرة أخرى »(المعري، 1968).

كما يقول )الجوهري( «يكرّ ؛ الرجوع، ويقال: ك رّر بنفسه يتعدى ولا يتعدى… وكرر الشيء  تكرارا وتكرارا »

)الجوهري، 1979(، ويوضح ابن معصوم أكثر فيقول: «التكرار وقد يقال التكرير، فالأول اسم الثاني مصدر من كررت الشيء إذا أعدته مرارا، وهو عبارة عن تكرير كلمة فأكثر بالمعنى واللفظ لنكتة؛ إما للتوكيد، أو لزيادة التنبيه، أو للتهويل ،أو للتعظيم، أو للتلذذ بذكر المكرر »(معصوم، 1969) .

ونفهم من ذلك أن التكرار الصوتي هو إعادة حرف أو كلمة أو عبارة لغايات صوتية وإيقاعية ودلالية، وقد يتنوع التكرار الصوتي في ديوان جبر جميل شعت( أ ب) بين التكرار الحرفي أو تكرار الكلمة عموديا مما أعطى السطور الشعرية  شحنة صوتية وإيقاعية، وبالتالي كثافة معنوية ودلالية، ويمكننا أن نحصر ظاهرة التكرار الصوتي فيما يلي:

 

1 –1 فاعلية تكرار صوت )اللام والراء والنون والميموأثرها في بث لواعج الفجيعة 

إن المتأمل في قصائد جبر جميل شعث يلحظ تردد صوت )اللام( زهاء) 170( مرة، وهو صوت متوسط الشدة والرخاوة، مفخم جانبي، كما تردد صوت )الراء( زهاء) 78( مرة، وهو مكرر متوسط بين الشدة والرخاوة لثوي، ثم تردد صوت )النون( زهاء) 63( مرة، وهو صوت أنفي لثوي مرفق، ثم نجد صوت )الميم( الذي تريد زهاء) 87( مرة، وهو صوت رخوي شفوي أنفي، ويمكن أن تمثل لذلك، بقول الشاعر:

–  باتت بلا قمر – بلا وتر، تری-  من أطفأ القمر الجميل؟-  من أسكت القيتارة؟-  من قطع الوتر؟-  عساسه الليليّ أم-  رواد حانتها الغجر؟ )شعت، 2003(.

نلمح في هذه السطور الشعرية حضور صوت الراء بكثافة مع وجود صوتي اللام والميم كذلك، في القصيدة  ومع ذلك كان لصوت )الراء( وقعه الموسيقي في أواخر السطور الشعرية قمر –  وتر –  الغجر( وكما كان له وقعه في الشعر بتكرار كلمة )غجر(، وقد أعضده صوت )الميم( خاصة، وما هذا التوظيف إلا لإعطاء الفجيعة بعدا، انطلاقا من )غرناطة( كرمز للحضارة العربية في الأندلس وهي امتداد لوجود الوطن الفلسطيني في عصرنا الحالي، ولا يخفى ما لتوافق الأصوات داخل المقطوعة وتعاضدها من تعميق الدلالة خاصة الميم واللام والقاف، وكلها تكون منظومة صوتية داخل التركيب الواحد لها وقعها على امتداد السطر الشعري أو في نهايته «إن المادة الصوتية تكمن فيها إمكانيات تعبيرية هائلة ،فالأصوات وتوافقها وألعاب النغم، والإيقاع والكثافة والاستمرار والتكرار والفاصلة العامة، كل هذا يتضمن المادة كطاقة تعبيرية فذة »(فضل، 1989).

لقد ترجم صلاح فضل قول (شارل بالي) الذي يفهم منه أن تكرار الأصوات فرديا أو جماعيا له مفعول داخل التركيب الشعري، بحيث أن هذا التواجد الصوتي في حقيقته خلق تظاهرة صوتية وتعبيرية هائلة، وهذا ما اتكأ عليه الشاعر لنقل كتابة الفجيعة التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي.

ونجده يقول في موقع آخر:

–  آي الكلام لا ظل له-  إذن،-  لم اللهاث خلف ظله المُحال-  إذن،-  لمن تكدس القصائد الطوال-  لعجمة اللسان أم-  لضجعة السلال؟(شعت، 2003.)

المقطوعة الشعرية حملت في طياتها إيقاع صوت اللام في قوله:  الكلام، ظل، له خلف، ظله، المحال، الطوال ،اللسان، السلاسل(، وهو صوت منحرف يجعل من المنظومة الصوتية واضحة في السمع وسليمة في النطق، ثم إن ارتباطه بالمد في الوافر، أعطى المقطوعة إيقاعا مميزا في قوله: )المحال، الطوال، السلال( وهي لام ساكنة مسبوقة بمد عمقت جراح السؤال وسكنت آلام الفجيعة وقيدت القافية لتسكن المآسي قلب الشاعر، لتتعمق كتابة الفجيعة، ثم إن صيغة الجمع ( فعال ) حافظت على النغم الواحد المكرر الذي يبقى ساكنا ذهن السامع والقاري، ولا يخفى لما ذلك من وقع في نفسية المتلقي، ويرجع ذلك لقيمة صوت اللام داخل المنظومة الصوتية مع الميم والراء والنون لما لها من« قيم صوتية خاصة ،حيث سهل مجاورتها لأي حرف من حروف الهجاء دون أن يتغير فيها النطق، فضلا عن تشابهها بحروف المد، مما يجعلها أكثر وضوحا والتصاقا بالسمع )الطرابلسي، 1992( .

ومن هنا نستنتج أن الأصوات الراء واللام والميم والنو ن خاصة يحتاجها الشاعر في أكثر من موقع، لأن حضورها يطغى على النص الشعري، في القصيدة ويضفي عليها نوعا من الإيقاع الصوتي الذي يعمل على توضيح الدلالة وإيصالها إلى ذهن السامع بأبسط الطرق .

يضاف إلى ذلك الواقع الذي تترجمة في أذن المتلقي، خاصة حرفا الراء وانحراف اللام ، وغنة النون وشفوية  الميم، وبذلك  كان لهذه الأصوات في مواقع كثيرة من الديوان وقعها وفاعليتها في إبراز الفجيعة والمساهمة في كتابتها .

2– منظومة التكرار الصوتي المؤسسة على حروف المد  : 

إن المقصود بأصوات المد ، هي حروف )الألف، الواو، الياء(، و«تسمى بحروف اللين، والمقصود بذلك أن هذه الحروف قد امتازت على غيرها من الأصوات بصفة المد التي تعد صفة قوية فيها» )الوجي ،1989(، وأصوات المد  عدّها اللغويون من الصوائت لا من الصوامت، لما لها من قيمة إيقاعية أثناء امتداد مساحتها الصوتية، حيث أن شاعرنا لا غنى له عنها مادام ينقل لنا أحداث الفجيعة بتجسيد مآسيها ونكباتها وهو يعبر عن الوطن الفلسطيني الجريح، وهو يحتج على الفوضى في عمق مشاعره الإنسانية، ليمتزج ما بداخله من تحسر وتأوه وحزن وكآبة وانتحاب، وما إلى ذلك من مشاعر منكوبة مفجوعة، وقد تردد صوت )الألف( زهاء) 290( مرة، وهو صوت انفجاري شديد ورخو ومرفق حنجري، كما تردد صوت )الياء( زهاء) 104( مرة، وهو صوت انتقالي صامت لين، كما تردد صوت )الواو( زهاء) 81( مرة، وهو صوت انتقالي صامت شبه لين بين الشدة والرخاوة، شفوي أنفي، ويمكن أن نضرب مثالا حول هذه الأصوات فيما يلي:

– أعطيتك الماء الفرات واللظى-  أعطيتك الطين الحميم والندى-  جعلت بردة عليك من رضى-   كفّرت عن خطيئتك – بالعري والنشيج والصوم الثقيل – بالصعود والهبوط – فوق كتفي صخرة – وظلمة – ليل طويل )شعت ،2003( .

لقد وظف الشاعر على المقطوعة الشعرية المسابقة أصوات المد )الواو( و)الياء( في قوله: )أعطيتك، الماء، الفرات ،اللظى، الطين، الحميم، الثدي، خطيئتك، القرى، النشيج، الصوم، الثقيل، الصعود، الهبوط، ليل، طويل(، وفي كل هذه الكلمات امتداد بالصوت، إما )بالألف أو الواو أو الياء(، وهو امتداد يفتح المساحات الصوتية لتغوص في عمق الظاهرة ،فالعطاء غير محدود، والماء هو الحياة، والفرات نهر لا ينضب، واللظى نار حامية لا تزول، والطين أصل الإنسان الأزلي، والحميم ماء ساخن في جهنم لا يكتفي، والندى قطرات طبيعية خالدة.

والرضى قناعة نفسية وشعور دائم في النفس، والعربي عرق متأصل، والنشيج سلسلة متواصلة و)الصوم( حالة وجاء والثقيل عند الإنسان قليل الإيمان، و)الصعود والهبوط( حكمة إلهية يعيش من خلالها الإنسان، و)الليل الطويل( هو هم الفجيعة التي ألمت بالشاعر، فكل ذلك أوجدته أصوات المد المتناغمة التي انفتحت بامتدادها ومساحتها الصوتية على معارف متباينة، وخلصت إلى أن الفجيعة كثيرة لها امتداداتها الزمنية، وربما تطول لتصبح شيئا أزليا لحكمة إلهية. وهو ما نلاحظه في السطور الشعرية السابقة، إلا أن أصوات المد لها وظائفها الخاصة داخل التركيب الشعري، إذ «المد بالألف يستهدف إطالة المعنى والتركيز عليه، بينما المد بالواو يرتبط نحو الاضطراب والخوف، أما المد بالياء يجعل حركة الصوت لطيفة ممتدة مما تستوجب الوقوف عندها وتأملها، وعلى هذا النمط يؤدي الإيقاع دورا مهمًا في تعميق الإيقاع النفسي ،وفي خلق نغمات وإيقاعات تتوازي مع الإيقاع الخارجي للقصيدة »)عيسى، د.س(.

وبهذا نلمح الإيقاع الداخلي لأصوات المد وهي متعاضدة، لتفصح عن إيقاع نفسية الشاعر وهو ينقل كتابة الفجيعة ،حيث شبهت المتلقي إلى فحوى الرسالة، كما جسدت الهموم والحالة النفسية المفزوعة التي تصير بثقل وحيطة، لتعبر عن العالم الداخلي للشاعر .

ونجده في مقطع آخر يقول:

–  وبين ما أريد – وما يراد لي-  سير طويل – سبعون مستحيل-  مما يعد المبتدي المعيد – فلأنزل اليدا-  فليس في المدى–   مزيد )شعت، 2003( .

يعيش الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية  حالة من اليأس، لأنه اصطدم بغير الممكن، حيث استحالة رغبته ،فهو يطمح ويتطلع ولكن هناك بونا شاسعا حتى يصل إلى مبتغاه، لذلك وهو يتأمل عمره الفاني وهو لا يرغب في المزيد .وقد كان لأصوات المد وقعها في تجسيد هذه الحالة المعبرة عن المستحيل في أن يحقق الشاعر ما يصبو إليه في قوله: )أريد ،يراد، لي، سير،  طويل، سبعون، صيف، مستحيل، المعيد، المدى، مزيد(، ولا شك أن صوت )الياء( قد كان فاعلا في نقل الرسالة الشعرية والدلالية، إضافة لصوت المد )الألف( و)الواو(، فقد عمقت هذه الأصوات من حالة الاستحالة، وكشفت عن عمق الجرح الذي ينتاب الشاعر، وليست كتابة الفجيعة المرتبطة بذاته وعالمه الداخلي، فالخلاص ميؤوس منه ولا مفر من الاستسلام إلى الأقدار، لأن العمر مضى ولم يبق منه سوى القليل، حيث «إن وقفة متأنية عند بعض الأبيات التي تتكرر فيها الحروف نستعين على تبيان فاعلية مثل هذا التكرار» )ربايعة، 2008(، وهو ما تراه في فاعلية حروف المد الثلاث في المقطوعة الشعرية السابقة .

ومن أمثلة الأصوات الممدودة، قول الشاعر:

–  توضأي بالماء يا أيتها البلاد كي-  نشقی بجنة تحت القدم – توضأي بالنار، أسبغي الوضوء کي – ننعم بالإثم والألم – لا شيء في يدي-  أعطيك يا حبيبتي – سوی البدد – أو الهروب من سؤالك اللعين – للعنة أشد )شعت ،2003( .

لقد وظف الشاعر أصوات المد في الألفاظ التالية ) توضأي، الماء، يا أيتها، البلاد، نشفى، النار، اسبغي، الوضوء ،يدي، أعطيك، حبيبتي، سوی، الهروب، سؤالك، اللعين(، ما يلاحظ هيمنة صوت المد )بالألف( ثم )الياء( ثم )الواو(، ولا يخفى لما هذه الامتدادات الصوتية من وظيفة على فتح المساحات الصوتية وبث الآهات لتجسيد الكتابة الفجيعة وامتدادها في عمق الذات الشاعرة، التي تبحث عن عنصر التطهير )توضئي بالماء – يا أيتها البلاد(، فالاغتسال ضروري لكل بشر في الأرض المقدسة، ومع ذلك يظل الشقاء والبؤس والتعب حيا وإن امتلكنا الجنة، بل إن هذا التطهير والاغتسال لا يكون إلا بالمعاناة حتى ننعم بالجنة، بل إن ذلك لا يتأتى إلا بالمجاهدة والمصابرة والمغامرة وركوب النار والخطر حتى نعرف حقيقة ارتكاب الإثم وحقيقة الألم والمعاناة.

ثم إن الشاعر في المقطوعة الموالية يشتغل كذلك على أصوات المد لا، في، يدي، أعطيك، حبيبتي، سوی، الهروب ،سؤالك، اللعين(، وهو اشتغال يحيلنا إلى عمق الذات الشاعرة التي تنفجر من الداخل، فنجد في أصوات المد متنفسا للولوج إلى عمق أحداث الفجيعة الحاصلة، فالشاعر لا يملك ما يهديه إلا السراب وعدم المجابهة والفرار مما سيلقي عليه من أسئلة محيرة لا يقوى على إيجاد إجابة لها وهو مكره، يقع بين المطرقة والسندان، ليجد أمامه ما هو أفدح وأشد من مآسي تحيط به لا يقوى على مجابهتها، فالذات الشاعرة تحمل معها كتابة الفجيعة وهي كتابة متألمة منكوبة مصقولة بأحداث فظيعة ومأساوية، وبهذا نجد «أصوات المد قد كان حضورها الفاعل في المقطوعة الشعرية السابقة ثمة وصف كامل للغة دون علم الأصوات» (الشايب، 1991).

3– أصوات الجهر والهمس وأثرها في كتابة الفجيعة  

لقد اتفق اللغويون والصوتيون على أن الأصوات المجهورة «هي التي تحدث عند النطق بها ذبذبة في الأوتار الصوتية » )بوحوش، 1993(، بينما الأصوات المهموسة هي «الأصوات التي لا تحدث عند النطق بها ذبذبة في الأوتار الصوتية » (تمام حسان،2004)،

ويمكن أن تحدد الأصوات المجهورة مثل )الضاد، الظاء، العين، الباء، الدال، الذال، الزاي، الغين، الجيم  (الأسمر، 2001)،

أما الأصوات المهموسة مثل )الطاء، القاف، الثاء، الكاف، الصاد، الخاء، الفاء، الثاء، السين، الشين ،الحاء، الهاء( تمام حسان، 2004).

وإذا تفحصنا ديوان )جبر جميل شعث(، نجد أن الأصوات المجهورة كانت مكثفة على حساب الأصوات المهموسة ،ومن أمثلة ذلك حضور الأصوات )الباء، العين، الذال، الجيم، الضاد، الغين، الزاي، الدال(، وعلى العكس نجد من المهموس )الكاف، القاف والشين( خاصة، حيث ت ردد صوت )الباء( زهاء) 39( مرة، وصوت )العين( زهاء) 28( مرة، وصوت

)الدال( زهاء) 24( مرة، وصوت )الجيم(، زهاء) 15( مرة، وصوت )الضاد( زهاء) 14( مرة، وصوت )الغين( زهاء) 07( مرات، وصوت )الزاي( زهاء ) 08( مرات، وصوت )الذال( زهاء) 15 مرة، بينما تريد صوت )الكاف( زهاء) 32( مرة ،وصوت )السين( زهاء) 15( مرة، وصوت )القاف( زهاء) 13( مرة، ونلاحظ أيضا ترتد صوت )الدال(  على هذه المقطوعة:

–  لا تنظر – العاشق القريب منا يبتعد -والفارس النبيل عندنا – مضى ولن يعود – القارب الآن يغور في العمق-  والقوس نثر في الأفق-  من تنتظر-  إلى متى سننتظر – إن الوفاء لا يعيد المفتقد (شعت ،2003) .

إن الملاحظ على المقطوعة السابقة حضور صوت )الدال( بكثافة في قوله: )يبتعد، عندنا، يعود، يعيد، المفتقد( ،وهو صوت غاري مركب احتكاكي لثوي أسناني، جهور يعبر عن الموقف بقوة وعنف، وقد زاد في قوته حضور صوت )الظاء( و)القاف( و)العين( في قوله: )ينتظر، عاشق، القريب، القارب، العمق، القوس، الأفق، سننتظر(، فقد عملت منظومة الأصوات )القاف، العين، الفاء( خاصة مع صوت )الدال( على بيان حالة اليأس والرجوع للحبيب، وهو ما يوحي إلى عدم عودة الوطن المغتصب، وقد اشتغل الشاعر على هذه الأصوات المجهورة حتى بعلف نفسه من جهة، ويبرز سمة كتابة الفجيعة من جهة أخرى، ويبث للمتلقي الحالة التي يعيشها جماعيا مع أبناء وطنه وأمته، «وهذا التكرار يكون قريبا لارتباطه بالوضع النفسي الذي يعيشه الشاعر »)ربايعة، 2008(، ثم يقول الشاعر في موقع أخر:

–  من ينقذ نفسي من نفسي-  من ينزع سلاء الشعر المؤذي-  أشواك العوسج من رأسي-  من يمنحني عسل الوسن

–  يهديني – الآن – إلى رمسي؟ (سمرا، 2009).

نلمح في المقطوعة السابقة حضور صوت )السين( في قوله: )نفسي، تفسي، سلاء، العوسج، رأسي، عسل، الوسن ،رمسي(، وهي منظومة صوتية غلبت على المقطوعة الصوتية )السين( وهذا، يذكرنا بسينية )البحتري( في وصف ديوان کسری، وقد ارتبط صوت )السين( بأصوات أخرى )النون( و)الشين( و)العين( و)الراء(، والتي جعلت من المنظومة الصوتية تأخذ بعدا آخر على وصف الفجيعة، انطلاقا من الذات المتألمة المفجوعة والشاعر يهمس لنفسه بخفوت لوقوعه في مأزق ذاتي لا فكاك منه سوى الموت، وهي حالة وصل إليها الشاعر جراء اليأس والقنوط وفداحة الفجيعة التي ألمت بالوطن والأمة، وما يلفت الانتباه هو شدة انسجام الشاعر بذاته وعالمه الداخلي وتعايشه مع الأزمة والواقع بأناه الفردية والذي أصبح أنا اجتماعي بامتياز، والسبب أن منظومة الأصوات التي تعالى مع صوت واحد تعمل على ربط العلاقات بين هذه الأصوات ومعانيها، حيث «أن بنية القصيدة تتمظهر بوضوح عبر الأصوات، حيث تتحول العلاقة بين الصوت والمعنى من علاقة خفية إلى علاقة جلية أكثر وضوحا وقوة »)فضل، 1989( .

إن قضية الجهر والهمس قضية صوتية مرتبطة بمواقف الشاعر المتباينة، فمتى احتاج إلى أصوات مجهورة مع مواقع القوة والعنف وظفها، ومتى احتاج إلى أصوات مهموسة مع مواقف اللين والخفوت اشتغل عليها، ومتى احتاج إلى الاثنين مزج بين هذا وذاك، وهو ما نراه في بعض المقطوعات الشعرية  عند (جبر جميل شعت)، حيث أن «الأصوات المجهورة المترددة بكثافة عالية فيما يشبه أن تكون احتفالية صوتية خاصة، تشيع جوا صوتيا جهوريا يناسب حالة البكاء المتفجر الذي اندمجت معه الذات» )عيسى، د.س(، وهو ما يناسب كتابة الفجيعة لدى شعث، فهو يبكي حاله وحال الأمة والوطن وما أصابها من نكبات ومآسي، وعندما تنتابه حالات اليأس والقنوط يصبح هذا الانفجار خفوت وهمس، فيوظف الأصوات المهموسة على غرار ما لاحظناه في المقاطع الأخيرة من توظيفه لصوت )السين(، حيث «أن الهمس هو الصوت الخفي فإذا جرى مع الحرف النفس لضعف الاعتماد عليه كان مهموسا» )أنيس، 1972 (.

إن الشاعر )جبر جميل شعت( قد افرد في قصائده إشكالية الكتابة الفجيعة وجهز لها منظومة صوتية متنوعة ،واختلفت بحسب المواقف التي تحدث عنها والوقائع التي وظفها تارة مع ثورة وعنفوان، وتارة في هدوء وسكينة، وطورا أخر في عمق آهات وكسر، ومع كل ذلك احتاج إما الأصوات المد أو أشباه الصوائت، أو الأصوات المجهورة أو المهموسة، أو أصوات أخرى دعمت هذه الأصوات السابقة، ولكن على العموم فإن المنظومة الصوتية في ديوا ن )أ-ب ( لـ)جبر جميل شعت( هي منظومة صوتية متوازنة إيقاعيا، ومتوافقة ومنسجمة مع الوقائع والأحداث التي عبر عنها، وهي أحداث نكبات ونكسات وجراح وأحزان وفجائع، قد تظهر جليا وقد تتوارى خلف الإيحاء والرمز، وتلك هي سمة القصيدة النثرية المركزة والمكثفة عند الشاعر .

4– التكرار الصوتي العمودي ودوره في تجسيد الكتابة الفجيعة  

ونقصد بالتكرار الصوتي العمودي أن يشتغل الشاعر على توظيف الفاظ بعينها على بداية كل سطر شعري لغايات إيقاعية دلالية وصوتية مختلفة «التكرار على مستوى بداية كل بيت شعري، فإذا كان التكرار الصوتي الافقي امتداد البيت الشعري الواحد كتكرار لفظ عن طريق الاشتقاق أو التجنيس فإن التكرار الصوتي العمودي نجده على مجموعة من الأبيات الشعرية المتتابعة لتحقيق غايات إيقاعية ودلالية بعينها» )رحمون، 2019( .

وإذا أردنا أن نتصفح هذا النوع من التكرار الصوتي في ديوان )جبر جميل شعت( )أ- ب( وإبراز خصوصية الكتابة الفجيعة من خلاله، نجده في مواطن كثيرة من قصائده الشعرية المركزة، حيث يقول:

–  والفجر… – وليال سود كثر – وصلاتك يا أمي الشفع والوتر – وسعال أبي المر – وجراحات أخي الخضر-  والأرض .

–  وما ظل لنا فيها من رمل » )شعت، 2003( .

لقد اتكأ الشاعر على التكرار العمودي منذ بداية سطر شعري بصوت )الواو( الذي أعطى لهذه السطور الشعرية تماسكا، وجعل حوادث الفجيعة تنسجم مع بعضها كما أراد لها الشاعر، حيث يرسم لنا لوحة من النوائب والخطوب التي تبدأ من الفجر ثم ما يليها من ليال قاسية مظلمة مع الشعب الفلسطيني وما يحدثه الظلاميون الصهاينة في حقه، وما يحدث لأفراد العائلة، فهذه الأم تصلي وتدعو الخالق آناء الليل، وهذا الأب المريض، يمثله النضال والحرب يبتلع مرارة الحياة والفجيعة، هذا الأخير يلملم جراحة المتجددة وفي كل ذلك نجد الوطن الجريح المغتصب الذي لم يبق فيه شيء، «وبذلك شكل صوت الواو عنصرا داعما للبناء والتماسك التركيبي والدلالي بربط السطور الشعرية بعضها بعض في لحمة واحدة ،ويضاف إلى ذلك ما تحدثه من إيقاع صوتي على هذا المستوى» )رحمون، 2019(، ويستعمل الشاعر حرف الاستفهام )هل( في موضع آخر من التكرار الصوتي العمودي فيقول:

–  هل عن غلط كنّا؟ – هل طينتنا جبلت؟ – باللعنة منذ بداية رحلتنا – هل كنا لا نعلم الأسماء؟ – هل عقدنا بيعة بغي مع النار؟ –  واستضأنا بالرفض والصعلكة؟-  هل مسح الشيطان على نطفتنا؟ » )شعت، 2003( .

لقد استخدم الشاعر التكرار الصوتي بـ)هل( منذ بداية كل سطر شعري في سياق الاستفهام الإنكاري، الذي يغطي على طرح إشكالية النكبات والفجائع، وما لصوت )الهاء( من همس خفي، وما لصوت )اللام( من وضوح في السمع ،وهو تكرار عمودي يتعمق في حقيقة الوجود الإنساني وكينونته والشك في جدواها و مجيء الإنسان بصدفة خاطئة، ثم يرتبط هذا التساؤل بالخلق الأول الذي ارتبط بالنكبات والنكسات، ويستمر التساؤل حول هذه اللعنات التي أوصلت العرق العربي الذي ظل يعيش دوما حالة من الرفض والتمرد والصعلكة، وكانا نطفة إنسانية خاطئة وملوثة، جاء منها الشيطان إلى الوجود، وإلا لماذا تبقى الفجيعة مستمرة والنار متأججة، وكائه المصير المحتوم الذي لا فكاك منه لقد عمل الشاعر بواسطة هذا التكرار الصوتي العمودي على طرح الفجيعة الكبرى التي ألمت بالأمة العربية، ومنها كانت فجيعة الكتابة لديه لا تفك عن الحديث عن المأسي والخطوب التي ألقت بالأمة العربية، ولهذا أحدث «بالتكرار العمودي تداخلا بين الإيقاع والدلالة، إذ يعجز الشاعر عن استفراغ البنية الانفعالية في بيت واح، فيكرر البنية التركيبية نفسها في أكثر من بيت، ليدفق المعنى فيها تدفقا يحلوه الترابط الإيقاعي والدلالي بين الأبيات على مستوى التقطيع العمودي »)الحلواني ،

. )2004

ثم نجده في موقع آخر يقول:

–  لا ماء في فمي – لا طين في يدي-  لا ضوء في صحيفتي-  لا قشة تستر عورتي» )شعت، 2003( .

فقد كرر في بداية كل سطر شعري )لا النافية للجنس مع اسمها(، في قوله: )لا ماء، لا طين، لا ضوء، لا قشة( ،ونحن نعلم أن هذه )اللام( خبرها دوما محذوف تقديره )موجود أو كائن(، حيث عملت لا النافية للجنس بتكرارها الصوتي العمودي على قطع الصلة بين الحياة والشاعر، فهو يعيش الظما والغربية والمنفى والابتعاد عن الأرض والوطن، يعيش بين الظلام الدامس يفتقد إلى النور، كما يعيش عاديا لا شيء يدهشه، إلا النكبة الحقيقية والفجيعة التي قصمت ظهره وفجرت إبداعه قصائد  مميزة عنوانها الشوائب والخطوب والمآسي، وقد ارتبط النفي )بالماء والطين والضوء والقشة( وهي أسماء منصوبة فقدت فاعليتها واضمحلت جراء ما يحدث من فجائع ونوائب، بعدما كانت هي سر وجود الحياة البشرية، وبذلك عبر الشعر عن زوال الحياة في خضم هذه الخطوب والفجائع، ولا يخفى ما لهذا التكرار الصوتي العمودي من وظيفة صوتية ودلالية هامة، فهو «يكشف عن فاعلية قادرة على منح النص الشعري بناء متلاحما،  إذ أن كل تكرار من هذا النوع قادر على إبراز التسلسل والتتابع، وإن هذا التتابع الشكلي يجعل السامع أكثر تحضرا لسماع الشاعر والانتباه إليه» )ربايعة ،2008( .

وينتقل الشاعر في مواقع أخرى على أصوات أخرى ) كالنداء، واسم الاستفهام )من(، واسم الإشارة )هذا – هذه( ، وبعض الأفعال وغيرها من الألفاظ(، حيث أن السياقات متباينة في وصف الفجيعة والنكبة.

حيث يقول في موضع آخر:

–  قات وصحب، ثرثرة – قات وحلم يمتضغ .

قات ووهم في اللعاب ينتشي – قات ووقت مسفكة-  وأنت في المقيل – قيل دون تاج أو عصا أو مملكة! )شعت، 2003(.

لقد كزر لفظ )قات( في بداية السطور الشعرية الخمسة الأولى، وهو تكرار صوتي عمودي ينفتح على آفاق متباينة،تضرب بجذورها في عمق الحياة مع الأصحاب والخلان أين  اللعب والفرحة والانتشاء ومع الأحلام الوردية التي يتطلع إليها كل شاب بدأ حياته، لكن هذه الأحلام سرعان ما تزول بفعل النكبات والفجائع، وتصبح الأحلام أوهاما تلوكها الألسنة دون جدوى مع أوقات وأزمنة ضائعة وذاهبة هباء منثورا، ولا يخفى ما لصوت )القاف( و )التاء( كأصوات مهموسة من أثر إيقاعي خافت، وهي مع صوت )الف المد(، تنفتح بمساحتها الصوتية على معنى )القات(، إذ هو نبات  أوراقه  تمضغ خضراء، قليله منبه وكثيره مخدر، موطنه الحبشة، يزرع بكثرة في اليمن، ويسمى شاي العرب، وبذاك عهد الإنسان نفسه للوصول إليه فيكون اللفظ أيقونة يرمز بها الشاعر إلى الحياة التي يعيدها للإنسان في خضم الفجائع والنكبات والمآسي، وبخاصة الشاعر الذي يحمل بداخله هذا الوجع، خاصة وجع الكتابة مما جعله يوسع « آفاق الجمالية وإدخاله المرونة على مجالات التوقيع والتأثير» )الحلواني، 2004( .

وعلى العموم فإن التكرار الصوتي العمودي له وقعه في النص الشعري، سواء أكان بالحرف أو الاسم أو الحرف ،إذ «المتواليات الإيقاعية وهي سلاسل من الوحدات الكلامية الدنيا أفعال أو أسماء عادة » )الطرابلسي، 1992(.

خاتمة 

نخلص إلى أن الحديث عن القصيدة  عند “جبر جميل شعث” وما أحاط بها من أحداث ارتبطت بالوطن الفلسطيني وجراحه، وبالأمة العربية ونكساتها، وبذات الشاعر المفجوعة، يفضي بنا إلى ما يلي:

–     الحضور المكثف لأصوات )اللام، والميم، والنون والراء(، في قصائد الديوان )أ.ب( دليل على أهميتها في اللغة العربية، لأنها الأكثر شيوعا ووضوحا في السمع وسهولة في النطق.

–     طغيان أصوات المد )الألف، الواو، الياء( يدل على فعاليتها وقيمتها الإيحائية الناتجة عن امتداد مساحتها الصوتية ،وقدرتها على حمل المشاعر والأحاسيس.

–     هيمنة الصوت المجهور على الصوت المهموس في الديوان، يدل على كثرة مواقف العنف والقوة والجهر، وكل ما هو ظاهر على حساب اللين واللطف والهمس، وكل ما هو باطن، أي غلبة ما هو ظاهري خارجي على ما هو باطني داخلي.

–     إن التكرار الصوتي العمودي له فاعلية وجمالية في الإيقاع الصوتي، وفي الصياغة والدلالة من خلال التماثل في بداية السطور الشعرية، وهو إلحاح صوتي مكرر أكد الدلالة والتماسك والتلاحم بين السطور الشعرية .

قائمة المراجع:

 

–     إبراهيم أنيس) .1972(. الأصوات اللغوية، ط6. القاهرة: المكتبة الأنجلو مصرية .

–     ابن معصوم) .1969(. أنوار الربيع في أنواع البديع، ط1. )شاکر هادي شكر، المترجمون( النجف: مطبعة النعمان .

–     ابن منظور الإفريقي محمد بن مكرم المعري) .1968(. لسان العرب. بيروت، لبنان: دار صادر .

–     أبو عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي) .1982(. كتاب العين، ج5، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيمالسامرائي،. بيروت: دار الرشيد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام  والنشر.،

–     اسماعيل بن حماد الجوهري) .1979(. تاج اللغة وصحاح العربية )المجلد مادة )ك ر ر((. )أحمد عبد القهار غفار ،المترجمون( بيروت: الشركة اللبنانية للموسوعة العربية، دار العلم للملايين .

–     أكرم أبو سمرا) .2009(. ديوان جبر شعث، شعر مغرورق بالقبور. جريدة دنيا الوطن،  78-45.

–     بلقاسم رحمون) .2019(. جماليات المعارضات الشعرية للقصيدة الشقراطسية، دراسة أسلوبية، ط1. باتنة، الجزائر:

دار المثقف .

–     تمام حسان) .2004(. اللغة العربية معناها ومبناها، ط4. عالم الكتب للنشر والتوزيع والطباعة .

–     جبر جميل شعت) .2003(. ديوان )أب(. غزة: مطبوعات وزارة الثقافة الفلسطينية.

–     جبر جميل شعث) .07 01, 2017(.amad . تم الاسترداد من السكر الذي قدمته يكفي مدينة مالحة:

https://www.amad.ps/ar/post/153754

–     رابح بوحوش) .1993(. البنية اللغوية لبردة البوصيري. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

–     شكري محمد عياد) .1783(. مدخل إلى علم الأسلوب. الجزائر: دار العلوم .

–     صلاح فضل) .1989(. علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، ط1. مصر: دار الشروق .

–     عامر الحلواني) .2004(. جمالية الموت في مراتي الشعراء المخضرمين، الخنساء، مالك بن الريب، أبو ذؤيب الهذلي ،قراءة أسلوبية، ط1. صفاقص، تونس: مطبعة التسفير الفني .

–     عبد الرحمان الوجي) .1989(. الإيقاع في الشعر العربي، ط1. دمشق: دار الحصاد للنشر والتوزيع .

–     فوزي الشايب) .1991(. محاضرات في اللسانيات، ط1. عمان: وزارة الثقافة .

–     فوزي عيسى. )د.س(. النص الشعري وآليات القراءة. مصر: منشأة المعارف بالأسكندرية.

–     محمد التونجي وراجي الأسمر) .2001(. المعجم المفصل في علم اللغة )اللسانيات(، ط 1. )إميل يعقوب، المترجمون( بيروت، لبنان: دار المكتبة العلمية.

–     محمد الهادي الطرابلسي) .1988(. بحوث في النص الأدبي، ط1. تونس: الدار العربية للكتاب .

–     محمد الهادي الطرابلسي) .1992(. تحاليل أسلوبية، ط 1. تونس: دار الجنوب للنشر.

–     موسی ربايعة) .2008(. جماليات الأسلوب والتلقي، دراسات تطبيقية، ط1. عمان، الأردن: دار جرير للنشر والتوزيع.

*صدر الديوان عن وزارة الثقافة الفلسطينية صدر الديوان عن وزارة الثقافة الفلسطينية 2003

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى