ثقافةملفات اليمامة

المرأة العربية بين حجاب العقل وحريّة الفكر

المرأة العربية بين حجاب العقل وحريّة الفكر

بقلم: سماح خليفة/ فلسطين

في الوطن العربي يحقّ لمن لا يفهم شيئًا أن يفتي في كلّ شيء، ويُجرّم صاحب العقل والفكر الحرّ؛ لمجرد فعل التفكير، فكيف إذا كان من يقوم بذلك الفعل امرأة، ما زالت تُعَدّ مواطنًا من الدرجة الثانية؟!

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحجر على العقل المفكر، حتى لو كُبّل صاحبه بالقيود، وقبع في قفص صدِئ نسقيّ الشكّل واللون والملامح.

أن تتفرّد بفكرك وتخرج عن القطيع فأنت مرجوم، مذموم، وكأنّ الله أودع في رؤوسنا حجارة لا عقول تعقل وتفكر، وأمّا الخطيئة الكبرى أن يمارس هذا الفعل امرأة، فالمرأة العربية في مجتمعاتنا بطبيعتها البيولوجية معرضة للإقصاء أو التهميش أو التّندر، ولا يُلتفت إليها باهتمام إلا كجسد جميل لا عقلا مفكرا.

لا أستطيع أن أقول إن مجتمعاتنا العربية ليست بخير في حين أن المجتمعات الغربية بخير، ما يمارس على شعوبنا العربية من مصادرة حرية الفكر، يمارس كذلك على الشعوب الغربية، وإن تفاوت الأمر واختلفت أشكاله، لكنّ الناظر إلى المجتمعات الغربية وما تحظى به من تطور وتقدم حضاري يُسقِط عليه بالضرورة حرية توازي هذا التطور.

الحكومات الغربية تهمش الفكر المخالف للسلطة الحاكمة إلى حد ما، لكنّها لا تحجر على مواطنيها، أو تصادر حريّاتهم، أو تمارس عليهم الترهيب والقتل والسجن والإقصاء، وفي الوقت ذاته تحتضن المبدعين، وتدعمهم لصالح البلد والسلطة والنهوض بها.

في مجتمعاتنا العربية، وبعيدًا عن القوى الخارجية والاستعمارية التي تضاعف المأساة، هناك خطر داخلي ذو حدّين يسلَّط على رقاب أصحاب الفكر الحرّ، فهناك فعل تدجينيّ للاتجاهات الفكرية مع نسبية الاختلافات في الأقطار العربية.

فأن تخرج عن النسق الثقافي المشترك، وتنقد السلطة الحاكمة، وتملك فكرًا مغايرًا لما يقدمه إعلامها، هذا يعني دفعها للنيل منك، وتهديدك إما بالقتل أو قطع مصدر رزقك وخاصة إذا كنت موظفًا حكوميًّا، تشعرك بأنّ راتبك الذي تتحصّل عليه جرّاء جهدك وتعبك في بناء هذا الوطن، ما هو إلا صدقة يتصدق بها أصحاب الكراسي والسلطة والنفوذ، ومقابل لقمة عيشك توجب عليك فروض الطّاعة، حتى وصل الأمر ليس فقط بمصادرة حرية الفكر والكلمة، بل بسياسة التجويع، ومصادرة لقمة العيش والحرمان من مصدر الدخل أو اقتطاع الراتب، وتضييق سبل الحياة الحرة الكريمة، فهي تسعى لإعادة هندسة العقول وإبادة ما يستعصي عليها. ولا يعنيها إن كان المعيل رجلًا أو أنثى، بل على العكس هناك امتيازات للمعيل الذكر.

وأما الحدّ الآخر والمتمثل في نقد العادات والتقاليد المجتمعية، فهو يمثل نقدًا للسلطة الذكورية وتمرّد عليها، ولا أريد أن أقول السلطة الأبوية والمجتمع الأبوي؛ لاختلاف النقاد حول هذا المصطلح ودلالاته وشرعيته النقدية.

ولذلك فإن تلك السلطة الذكورية الجمعية النسقية تحاول أن تستمد شرعيتها من سلطة الدين، ليس المقصود طبعًا بالدين ما يتصل بالله العدل الحق، وإنما منظومة سلطوية ذكورية ابتكرها الإنسان منذ القدم وحملتها الأنساق، وتوغلت في الذاكرة الجمعية، وسارت تستظل بمظلَّتَي الحلال والحرام الذي لا يمارس إلا على المرأة، لتظل خاضعة لسلطة الرجل، فالمرأة إن فكرت أبدعت وأدركت قيمتها واستقلاليتها، وحريتها في ممارسة الحياة والعمل والحب والعلاقة الجنسية وفق رغبتها هي واحترامها لذاتها وكينونتها، لا تلبية لاحتياجات الرجل كأداة متعة بالدرجة الأولى على حساب احتياجاتها في الدرجة الثانية، أو الأخيرة في سلّم العائلة.

إن مأساة المرأة العربية في مجتمعاتنا الشرقية الذكورية مضاعفة، ومهما حاولنا أن نخدع أنفسنا بتذويب هذه الصفة عن مجتمعاتنا أو إنكارها لن نستطيع؛ لأنها واقع معاش، ترزح تحته المرأة أينما ذهبت ومهما حملت من مسمى، ربة بيت، عاملة، كاتبة، مسؤولة…

لا يزال شهريار يُكافأ حتى يومنا هذا بغض النظر عن السبب، حتى في الأماكن التي نتوهم فيها الانفتاح والحرية، فالمكافأة نتيجة متفق عليها وإن تعددت أشكالها وآلياتها. إن تقديس فكرة الذكورة من الأساس على حساب الأنوثة في مجتمعاتنا تقتضي تلك المكافأة النسقية.

تسعون عاما تقضيها امرأة مثل نوال السعداوي متمسكة بفكرها الحر، منذ نعومة أظفارها حتى نعومة شيخوختها، مؤمنة بالله غير المجنس، مؤمنة بحرية الفكر والمعتقد، بعيدًا عن التكفير والأحكام التي يطلقها أرباب البشر عليها، إلا أنها إنسانة مفكرة مبدعة، تستحق الاحترام والتقدير.

الفارق بين نوال السعداوي وبين أي مفكر مبدع؛ أولًا: أن صاحبة المبادرة أنثى، وثانيًا: أن هذه الأنثى سمحت لنفسها أن تفكر بصوت عال، في زمن يفرض عليها إما أن تبوح لذاتها في صمت، أو أن تمنح زمام المبادرة لذكر يتصدر المشهد وتبقى هي في الخفاء، حتى لا تمس قدسية القوامة الذكورية الساذجة في إطارها التقليدي البعيد كل البعد عن دين الله الحق، وبالتالي كسرت نوال تابوهات محرمة على بني البشر، فكّرت وحلّلت وقيّمت واستنتجت وحاورت ونقدت، ولم يستطع رجل دين ولا مفكر أن يقارعها الحجة بالحجة؛ لقصور في التفكير والإبداع، وإنما مارسوا عليها ذكورية الإقناع والتأثير، وما زادها إلا إصرارًا وتشبّثًا بآرائها.

في حين أننا، على الصعيد الآخر، نفكر بصوت لا يجرؤ على تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها قوى عالمية رأسمالية، وظفت رجال الدين من جهة، للسيطرة على عقول شعوب العالم الثالث، مقابل شعارات الديمقراطية والحرية والسلام من جهة أخرى في الحضارات الغربية، هي لعبة سياسية اقتصادية، وأيدولوجيا رأس الهرم المتنفذ في سلطة العالم.

إن ذكر نوال السعداوي لا يعني أنني أتفق مع آرائها وأفكارها تمامًا، أتفق معها في أمور وأخالفها في أخرى، إلا أنني أحترمها، وأقدر شجاعتها، وثباتها، وأرفع شعارها بضرورة خلع حجاب العقل، الذي لا يعني بالضرورة حجاب الرأس، الذي أغضب الكثيرين في ظنهم وتأويلهم، وتبقى تلك نقطة خلاف واختلاف وتأويل.

حجاب العقل ليس مأساة الرجل الشرقي والمرأة الشرقية الخاضعة في مختلف الشرائح الاجتماعية فقط، بل هو مأساة كتاب وكاتبات مفكرات أخريات، فماذا يعني أن تقوم كاتبة مفكرة ومنتجة مادّيًّا وأدبيًّا، تنادي بإنصاف المرأة، وتقف إلى جانب النساء المهمشات والمعنّفات والمضطهدات، بتغيير لون عينيها وارتداء عدسات لاصقة ملونة أثناء تواجدها في تجمعات أدبية ذكورية تسعدها نظرات الإعجاب والانجذاب إليها، ثم تخلع العدسات في مجتمعها العائلي والمهني الضيق، ما هذه المفارقة بين ما تحمله من فكر وما تمارسه.

وماذا يعني أن تقوم كاتبة أخرى منتجة للأدب الذي يصف معاناة المرأة في مجتمع ذكوري، يستغل النساء، ويوظف أنوثتهن لإرضاء الذكور، وفي المقابل تجري عمليات تجميل في وجهها تكاد تذهب بملامحها فلا تتعرف إليها إلا بصعوبة بالغة بعد البحث في تاريخها!

إنّه تسليع المرأة وتشييئها، هو نسق حملته الذاكرة الجمعية، ذكورًا وإناثًا على حدٍّ سواء، من عصر شهرزاد وما قبل، إلى يومنا هذا، المرأة يجب أن تكون جميلة جذّابة، وتتغنى بأنوثتها، حتى يستمتع بها الرجل ويهنأ، وظيفة نسقية على المرأة أن تتحرر من سطوتها، وتلتفت إلى جوهرها.

أنا كامرأة وكاتبة لست ضد الجمال، ولا ضد عمليات التجميل التي تعمل على إصلاح خلل ما في جسم الإنسان، وأتفهم (ولا أتفق) أن تقوم ممثلة أو مغنية، على سبيل المثال، بإجراء عمليات تجميل؛ لتحافظ على صورتها أمام جمهورها، فمثل هؤلاء، المظهر الخارجي بالدرجة الأولى هو سبب نجاحها مع متابعيها لا عقلها، ولكنني لا أستطيع أن أتفهم هذه الممارسة لكاتبة أو مفكرة منتجة.

ورغم أن النموذجين السابقين سيفتحان باب التأويل والفلسفة الساذجة التي ستقودنا إلى مقولة سيمون دي بوفوار التي كتبتها إلى حبيبها نيلسون، وأثارت بها استياء الحركات النسوية فاتهمنها بالنفاق: “أريد أن أطبخ لك وأكنس وأغسل الصحون…أريد أن أكون زوجة عربية مطيعة”. إلا أنني أرى مثل هذه العبارة تشي بمدى معاناة المرأة بشكل عام من السلطة الذكورية، وحجاب عقلها الذي ينال من كرامتها أمام الرجل، فالطبخ والكنس وغسل الصحون لا علاقة له بالحب، وليس موضوعا يستحق أن يقايض به، وإنما كما اعترفت دي بوفوار، له علاقة بالطاعة، الضحية التي تعشق الجلاد، على اختلاف صورها، والتي لها علاقة بعقدة (الأنثى) التي عانت منها سيمون من قبل أبيها منذ طفولتها.

لا ينصف المرأة إلا نفسها، لا استعمار غربي يدعي تحرير المرأة، ولا فكر سلفي يدعي وصايته على المرأة، كل يتاجر باسم المرأة لمصالحه الشخصية، الرأسمالية العالمية قائمة على تجارة الجنس المقترنة بالضرورة اقتصاديًّا وسياسيًّا، ومن صالحها خلق توجهات فكرية داعشيّة، تضيّق على المرأة التي هي كل المجتمع وليست نصفه، فتظل المجتمعات العربية بذلك في آخر الركب.

ولا نريد في الوقت ذاته أن نتغنى بقاسم أمين وخلقه “امرأة جديدة”، ولا أن ننخدع بشاعرية نزار قباني الشبقية، الذي جعلها دونًا له، داسها ليصعد إلى متعته “لم تبق زاوية بجسم جميلة إلا ومرّت فوقها عرباتي”، لم يستطع أن يراها نجمة في سمائه يصعد إليها لا يصعد عليها، أو يدًا بيد، يصعدان نحو الإنسانية العادلة.

لا يكفي أن تكون المرأة حاضرة في الميادين الحياتية جميعها، إنما عليها أن تفكر في نوعية حضورها، وأن تطرح سؤالًا دائمًا: ما الفارق الذي أحدثته المرأة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؟ هل تملك بصمة فكرية خاصة بها تنبع من كينونتها المستقلة؟ هل تملك الجرأة لتعبر عن رأيها، ويحدث صوتها صدى في الأرجاء؟

بيت المرأة وعائلتها هو خيارها وحدها، لا يلزمها أحد بمسؤوليات ينتقيها ويفصّلها وفقًا لما يناسبه وما يراه، المرأة هي الأقدر على رسم خارطة وجودها وطريقها نحو مستقبل مستقل يحقق ذاتها وحريّتها.

لن تشعر المرأة برضى عن محيطها وشريكها الرجل إلا إذا استطاعت أن تستغني بنفسها ماديًّا وفكريًّا ومعنويًّا، أن تنعتق من الوصاية الذكورية؛ لتملك زمام أمرها بأمرها.

زر الذهاب إلى الأعلى