ثقافةمقالات

قراءة في قصة “ثروة” للكاتب العالمي أنطون تشيخوف

قراءة في قصة “ثروة” للكاتب العالمي أنطون تشيخوف

بقلم: ماهر تيسير داود/ فلسطين 

1-القصة:

“منذ أربعين عاماً، عندما كنت في الخامسة عشرة، عثرت في طريقي على ورقة من فئة جنيه، منذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي عن الأرض، أستطيع الآن أن أُحصي ممتلكاتي، كما يفعل أصحاب الثروات في نهاية حياتهم.. فأنا أملك 2917 زراً، و34172 دبوساً، و12 سن ريشة، و13 قلماً، ومنديلاً واحداً، وظهراً منحنياً، ونظراً ضعيفاً، وحياةً بائسة”.

2-القراءة:

يعتبر الكاتب الروسي أنطون تشيخوف (1860-1904) من أبرز الأدباء العالميين، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عالمية، ومن أعماله المترجمة إلى العربية: جريمة في حفلة صيد، والنورس، والشقيقات الثلاث، وبستان الكرز.

بالنظر إلى القصة التي أمامنا، نرى أن عنوانها “ثروة” مكتوب بين مزدوجين، وهذه سمة، ميزة، ولها دلالات عديدة، أبرزها الثروة المالية، والتي تعتبر من أبرز ما يتبادر إلى الذهن، وقد تكون ثروة فكرية إذا ما أخذنا في الاعتبار هوية الكاتب، وصيته العالمي على صعيد الكتابة المسرحية وفنون القصة والرواية، إنها الثروة الفكرية والنثرية التي تقف خلف مؤلفات تشيخوف، وعدد قرائه واللغات التي تُرجمت إليها أعمالُه.

إن هذا النص ذات السطور الثلاثة حافل بالمعاني والرموز والدلالات، التي تستدعي السيميائية إلى ميدان التحليل، وذلك لما تحتمله كلمة “ثروة” من سمات ورموز ودلالات واسعة، وهذه السمات متضاربة الدلالة إذا ما قورنت بمضمون القصة. فليست الثروات التي سوف تتكشف لاحقاً سوى مفاجأة مخالفة للتوقعات.

ولو أننا قرأنا كلمة “ثروة” حسب الاستراتيجية التفكيكية في النقد، لرأينا مفارقة تطل برأسها من آخر النص، فالكاتب على ما يبدو لم يجمع ثروة مالية.. لا نقود ولا ذهب ولا مجوهرات، لقد جمع أزراراً، ودبابيس، وريش طيور، ومنديل واحد. ثم إنه يولد المفارقة من داخل المفارقة، فلقد انحنى ظهرُه وضعف نظرُه، وأصبحت حياته مع الوقت أشد بؤساً، وحمل منديلاً كناية عن الحاجة للبكاء وتجفيف الدموع.. فهل هذه تسمى ثروة؟! أهكذا تكون الثروة؟ بمشاكل صحية وحياة بائسة؟ إن القراءة التفكيكية تمنح المعنى المعجمي لكلمة ثروة دلالات جديدة غير تقليدية، دلالات لم تكن متوقعة قبل قراءة السطور الثلاثة.

يقرع نشيخوف باب التاريخ، وذلك بقوله: منذ أربعين عاماً، كما أن قوله: “منذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي عن الأرض” يستدعي تفكيك العبارة وتفجيرها والبحث عن المعنى المحتمل داخلها، لا سيما أن التفكيكية تحفل بما لم يصرح به الكاتب، أو بالمسكوت عنه، فهي تنادي بموت المؤلف وتعطي سلطة القراءات المتعددة للقاريء من أجل توليد المعنى، لم يرفع تشيخوف وجهه عن الأرض، ربما ذلاً، وبحثاً عما يسد رمقه من المال، وربما مثابرة للبحث عن المزيد من أشكال الرزق.. مالاً أو إلهاماً أو حكمة، ولعله كذلك أطرق بنظره إلى الأرض متواضعاً، ومتأملاً في مقادير الحياة.

إن النص حافلٌ بالمفارقات، وأي ممتلكات تلك التي يحصيها أديبنا منذ ذلك العثور الميمون على ورقة الجنيه؟ وهل الأزرار والدبابيس وأسنان الريش ممتلكات تستحق الإحصاء؟ وهل انحناء الظهر وضعف النظر وبؤس الحياة هي ثروات تستحق الإشهار والاحتفاء والتفاخر؟

تقوم التفكيكية على هدم النص من الداخل بالمعنى الإيجابي للكلمة لإعادة قراءته وفهمه والغوص في دلالاته المحتملة بعيداً عما أراده الكاتب تحديداً. فالنص بهذا المعنى مُلك القاريء. لو أننا نظرنا إلى النص بعدسة الاستراتيجية التفكيكية فلسوف نرى مشهداً مثيراً للاهتمام، إن الأقلام هي أدوات الكتابة والتوثيق، إنها ضرورات الإبداع، والمنديل تعزية للذات، مفادها أن جفف دموعك وواصل دربك ولا تُري ضعفك لأحد.. أهذه ثروة؟ والظهر المنحني هو ضريبة العمل الشاق والأعباء بشقيها الحقيقي والمجازي، وقد يرمز انحناء الظهر سيميائياً- دلالياً إلى الهرم والتعب، ولكنه تفكيكياً إشارة إلى الكهولة والحكمة ودروس الحياة.. وضريبة لمقارعة الأيام والليالي والسنين.

تحمل الأزرار دلالات- سمات الستر واللباس، وقد انفرطت عن ثياب المارين في دروب الحياة، وأما الدبابيس وهي الأكثر عدداً كما يبين النص فهي لتثبيت أطراف الثياب والأمتعة، ولكنها في المقابل قد ترمز إلى تنفيس الكربات، وتنفيس الغرور وإحباط الدافعية للعمل بتفريغ الدافعية من جوهرها، وقد يبدو الدبوس في سياق ما مضاد للعجرفة ومضاد للانتفاخ والعظمة الزائدة. وأما المنديل فهو للرثاء، ولذلك هو وحيد، يتيم، لم يجد تشيخوف منه إلا واحداً، إن ضاع منك فقد لا تجد غيره طوال مسيرة أربعين عام، فبماذا تجفف دموعك؟

أما انحناء الظهر وضعف النظر فهما ضريبة قسوة الحياة، وهذه تحديداً هي الممتلكات التي تستطيع أن تحصيها بيقين تام، وبثقة مطلقة على أنها لك، ولن ينازعك فيها أحد!

ولكن، يا للمفارقة الجميلة، هذا النظر الضعيف الذي عده تشيخوف من ضمن ثرواته هو هامشي- جانبي- جسدي، فقد اكتسب عوضاً عنه بصيرة ثاقبة، وذلك الظهر المحني قد نال تشيخوف عوضاً عنه عموداً فقرياً صلباً في ميادين المسرح والقصة والرواية، ولقد أشار فيما بين السطور وهو يحصي “ثرواته” إلى شهرة عالمية ومكانةٍ أدبية واسعة، مكانة يمكن أن يقال عنها أنها أثمن ممتلكات أنطون تشيخوف على الإطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى