مقالات

تمظهرات المكان في رواية وردة عيسى وتأثيرها على الشخصية الروائية.. بقلم: يوسف السحار 

تمظهرات المكان في رواية وردة عيسى وتأثيرها على الشخصية الروائية

بقلم / يوسف السحار/ باحث 

تجلت العلاقة بين الشخصية الروائية والمكان في رواية وردة عيسى لأنور الخطيب في التأثير الذي أحدثه المكان في نفوس الشخصيات وسلوكها، إذ إن أحداث الرواية قامت في أساسها على صراع دموي بين الجيش النظامي والمسلحين في إحدى المدن العربية- وواضح من خلال عديد المعطيات المقدمة على طول الرواية- يرجح أنها مدينة سورية، حيث تقاسم أطراف الصراع طرفي المدينة بينهما، فاستحوذ الجيش النظامي على المنطقة الشرقية، فيما استحوذ المسلحون على المنطقة الغربية، وكان يتوسط طرفي المدينة، دائرة دفن الموتى الذي عُين فيها عيسى، وكانت شاهدة على عديد المواقف التي مرَّ بها عيسى، وكم تزاحم الهواجس التي سيطرت على عيسى حيال كل موقف يتعرض له، سواء من الجيش النظامي أو من المسلحين.

ونحن إذا نظرنا إلى رواية” وردة عيسى” سنجد أنها مفعمة بفضاءات مكانية صريحة من قبيل: دائرة دفن الموتى، المسجد، قصر الأمير، وأخرى ضمنية من خلال توظيف الروائي لألفاظ مواربة من قبيل: الداخل، الخارج، الوسط، فكيف هو الأمر بالنسبة للعلاقة بين شخصيات الرواية في المقام الأول وتأثير الأمكنة عليها وتأثيرها فيها.

1- الكنيسة:

تمثل الكنيسة بمحدودية إطارها الجغرافي مكانًا مغلقًا إلا أنها وعلى الرغم من ذلك تؤطر في إطار الأمكنة العامة في الرواية، فهي ليست خاصة بشخص ما؛ إنما هي ذات خصوصية عقائدية، وقد كان لهذا المكان سطوة وتأثير على شخصية عيسى وحياته، فعلى اعتبار أن عيسى مسلم وولد في كنيسة فقد انعكس ذلك عليه فيما بعد، حيث حورب بسبب ميلاده في الكنيسة وأيضًا لأن اسمه يماثل اسم المسيح عليه السلام” ففي اليوم الأول للتدريب أبدى- أي المدرب العسكري- اشمئزازًا مباشرًا لحظة نطقي لاسمي في طابور التعرف على المجندين، لاحظت ذلك بوضوح، رأيت ملامحه التي بدت وكأنه شم رائحة كريهة، ثم تحاشى النظر إليَّ طوال ساعات التدريب، انتابني إحساس بالقرف والغثيان”( )، كذلك كان لموقفه مع المسلحين الذين حاوروه على إحدى الحواجز أثناء توجهه للمنطقة الغربية ومناقشتهم إياه في اسمه مؤشرًا على مدى الكراهية التي كان يتعرض لها جراء ذلك المكان (الكنيسة) التي ولد فيها.

لم يكن أثر ميلاد عيسى في المكان بذات التأثير الذي انعكس عليه، بمعنى أن عيسى عندما ولد في الكنيسة ترك أثرًا إيجابيًا في نفوس الحاضرين لميلاده رغم ديانته المسلمة” انتشرت قصة تسميتك وابتسامتك بسرعة انتشار البخور في الكنيسة، سمعت كلمات الشكر من أعماق قائليها، وتدفقت نساء كثيرات بعد استئذانهن من أنطوانيت إلى” غرفة الولادة”، أردن رؤية الطفل الذي وُلد في ليلة الميلاد المجيدة… بعد الانتهاء من القداس، أرسل لي الأب جرجس معبرًا عن رغبته بمباركتك”( )، وهنا نلتمس مدى الأثر الذي تركه عيسى في المكان وأهله، لكن تأثير المكان عليه كان مغايرًا، بمعنى أن نعمة الميلاد استحالت إلى نقمة العيش في ظل معطيات الواقع الجديد الذي أفرزه الصراع ونتائج الحرب الدامية وكأن دلالة اختيار هذا المكان في ضوء علاقة الشخصيات به وتحديدًا عيسى وتأثيره عليه، إنما تتولد من رغبة لدى الكاتب في استرجاع زمن مضى والتنويه لفترة كان التسامح بين الأديان ولغة المحبة هي السائدة بين أفراد المجتمع، لكن ذلك لم يعد قائمًا وبدّل التسامح إلى بغض وقلبت المحبة إلى كراهية بفعل الحرب التي اندلعت، واعتناق بعض الرؤى المتطرفة من قبل بعض الأشخاص الرافعين لواء الدين.

2- دائرة دفن الموتى:

تمثل نموذجًا للمكان المغلق المحدد بحدود جغرافية إلا أنه ذو أبعاد عامة، فهو مكان مخصص للاحتفاظ بجثث ضحايا الحرب قبيل نقلهم لمثواهم الأخير، وقد كان هناك نوع من الاحتكاك المباشر بين عيسى وهذا المكان، حيث آثر عيسى العمل به على غيره من الأعمال الأخرى “أبناء جيلك يبحثون عن أماكن عمل توفر لهم الراتب الجيد والامتيازات والبيئة المختلطة المليئة بالصبايا الجميلات، ويحلمون باقتناء سيارات جديدة والسهر في أماكن معروفة، أما أنت فتوافق على العمل في دائرة دفن الموتى، هل تعلم من يعمل هناك يا عيسى؟- الأموات”( )، وقد كان الدافع الذي حذا بعيسى لقبول العمل في دائرة كهذه مختصة بالاحتفاظ بجثث الأموات ولا يمكن المكوث فيها إلا مع الأموات وتفضيله إياها على سائر دوائر العمل الأخرى يرجع إلى حالة الحقد والكراهية التي كان يكنها له بعض الأفراد نتيجة مكان ميلاده المشار إليه سابقًا ولمجرد أن اسمه عيسى على اسم السيد المسيح عليه السلام، فقد أراد من العمل في دائرة دفن الموتى أن ينأى بنفسه عن الناس فيقول:” في هذه الدائرة يا سيدي، لا أتوقع أن يعيرني أحد باسمي، أعلم أنك تعتقد بأنهم قلة قليلة، لكن الأيام سنثبت لك أنهم أكثر مما تتخيل، ولن يعيروني باسمي فقط، أو بالطريقة التي أصلي بها، وقد تكون مختلفة عنهم، ولكنهم سيقتلونني أمام الناس، وربما أمام الأطفال، وربما فوق قبر أبي وأمي”( )، وهنا نلحظ استشرافًا من قبل عيسى لطبيعة المشهد الذي آل إليه حال المدينة وأهلها عقب اندلاع الحرب الدامية بين الجيش والمسلحين وكأن عيسى قد نأى بنفسه عن الناس والتعامل معهم ليلوذ بها إلى دائرة دفن الموتى حيث التعامل مع الأموات الذين لا يكرهون ولا يحقدون على أقل تقدير، وهذا المكان أشبه بسجن أجبر عيسى على القبول به واقعًا مفروضًا عليه، بحكم العداوة التي كان يكنها له بعض الأفراد، إذ يقول” أما عن توجهات الشباب وأحلامهم، فأنا أؤيدهم، وأطمح أن أكون مثلهم، ولكنني لا أستطيع..

– لا تستطيع أم أنك لا تريد؟

– كلا الأمرين يا سيدي، أنا لم أصل إلى درجة الحلم، ولهذا لا أستطيع، وأنا لم أعرف نفسي بعد، ولهذا لا أريد… وبالنسبة للعمل، أعلم أنه ليس ممتعًا، لكنه عمل حقيقي ومهم لأنك تتعامل مع الحقيقة التي لا تقبل الشك أبدًا”( )، وعيسى في هذا معذور، فالحلم الذي لم يصل إليه عيسى كان بسبب جو الكراهية الذي كان يحيط به، وغياب الإرادة عنه نابع من غياب الأرضية المناسبة لتحققها، لذلك نراه يفضل التعامل مع الموت والأموات باعتبارها الحقيقة اليقينية التي لا تحتمل الشك أو التأويل.

من هنا نجد أن تأثير المكان على شخصية عيسى كان تأثيرًا إيجابيًا فقد شعر عيسى بالأمان والاطمئنان في هذه الدائرة رغم حالة الخوف والرهبة التي سيطرت عليه في أول يومين لعمله هناك.

“شعرت بالخوف في اليوم الأول، وبالرهبة في اليوم الثاني، ثم اعتدت على المشهد بسهولة وتقبلت تفاصيله باستثناء البكاء والضرب على الصدور وشد الشعور وحالات الإغماء”( )، كذلك كان لعمل عيسى في دائرة دفن الموتى التي تتوسط في جغرافيتها بين أطراف النزاع مؤشرًا على حيادية هذه الشخصية من الصراع الحاصل، إذ إن عمله في هذه الدائرة قد أملى عليه الوقوف على الحياد من جميع الجثث القادمة إليه، وبذلك فإن للمكان أثر في طبيعة الشخصيات وتأثير في سلوك الشخصيات، فأثره على طبيعة الشخصيات جعلت الجميع يحترم ما لهذا المكان من حيادية، فلم نرَ أيٍّ من أطراف الصراع يقصف ويدمر في هذا المبنى شأن كل المباني، عدا بعض جولات تفتيشية مباغتة كان يقوم بها هذا الطرف أو ذاك، وتوسط جغرافية هذا المبنى بين طرفي الصراع يؤشر على حياديته وعلى اشتراك الطرفين فيه، أما عن تأثيره في سلوك الشخصيات فإن لهذا المكان تأثير في سلوك عيسى في نهج الحيادية تحديدًا، كذلك كان لعمل فارس رئيسًا لهذه الدائرة بعد أن عمل في ميدان الإعلام تأثير في ترويضه عن عمله الدؤوب في ملاحقة الفساد من خلال تحقيقات صحفية طال من خلالها رؤوس السلطة المتنفذين، وهذا يؤكد الحيادية التي صبغت هذا المكان والعاملين فيه على حد سواء.

التأثير الذي انعكس عليه، بمعنى أن عيسى عندما ولد في الكنيسة ترك أثرًا إيجابيًا في نفوس الحاضرين لميلاده رغم ديانته المسلمة” انتشرت قصة تسميتك وابتسامتك بسرعة انتشار البخور في الكنيسة، سمعت كلمات الشكر من أعماق قائليها، وتدفقت نساء كثيرات بعد استئذانهن من أنطوانيت إلى” غرفة الولادة”، أردن رؤية الطفل الذي وُلد في ليلة الميلاد المجيدة… بعد الانتهاء من القداس، أرسل لي الأب جرجس معبرًا عن رغبته بمباركتك”، وهنا نلتمس مدى الأثر الذي تركه عيسى في المكان وأهله، لكن تأثير المكان عليه كان مغايرًا، بمعنى أن نعمة الميلاد استحالت إلى نقمة العيش في ظل معطيات الواقع الجديد الذي أفرزه الصراع ونتائج الحرب الدامية وكأن دلالة اختيار هذا المكان في ضوء علاقة الشخصيات به وتحديدًا عيسى وتأثيره عليه، إنما تتولد من رغبة لدى الكاتب في استرجاع زمن مضى والتنويه لفترة كان التسامح بين الأديان ولغة المحبة هي السائدة بين أفراد المجتمع، لكن ذلك لم يعد قائمًا وبدّل التسامح إلى بغض وقلبت المحبة إلى كراهية بفعل الحرب التي اندلعت، واعتناق بعض الرؤى المتطرفة من قبل بعض الأشخاص الرافعين لواء الدين.

زر الذهاب إلى الأعلى