ثقافة

قراءة سيميائية في قصيدة “دمنا زيت البلاد” للشاعر جواد العقاد

قراءة سيميائية في قصيدة (دمنا زيت البلاد) للشاعر جواد العقاد

بقلم: عباس مجاهد/ باحث في الأدب والنقد

العلامة العنوانية

أعد هذا العنوان مرآة مضيئة للنسيج النصي، وفيه رسالة صادرة من مرسل إلى مرسل إليه، والعنوان نتج عن تفاعل بين المرسل والنص، أما القارئ فيدخل إلى النص من نافذة العنوان.
وهو عنوان فيه إيحاء وتأملات خاصة بالشاعر، وتكون العنوان من ثلاث كلمات؛ الكلمة الأولى الدم، وهذه اللفظة ارتبطت في فلسطين بالتضحيات والشهداء فكثيرا ما جبل بتراب الأرض، والثانية الزيت، وهو من الموروث الفلسطيني ويشكل عصب العيش والمأكول عند الفلسطينيين، وهو يعد الأكلة (رقم واحد)، كما يدخل في صناعة أغلب المأكولات الفلسطينية، وهو مصدر قوة للجسم ويشكل من ناحية أخرى علاجا وقوة للدم الذي يجري في العروق، والثالثة لفظة البلاد التي أضيفت للفظتين السابقتين لتجعل من الكلمتين أكثر ارتباطا بالمكان فلسطين.

وهذه الكلمات عبرت عما يدور في خلد الشاعر، فالعنوان امتلك خاصية الأمل، من خلال لفظتي الزيت والدم، فجعل الدم مستعارا لتحرير البلاد الموروثة من الأجداد بفعل الزيت، وجعل من زيت الزيتون دما في عروق كل فلسطيني، وحمّل هاتين اللفظتين تشبيها بليغا، وكأنه يطلب من القارئ تحديد وجه الشبه، فالزيت من صفته واستعمالاته الإضاءة، والدم من صفته واستعمالاته الحركة، فلا إضاءة دون حركة، ولا حركة دون دم، ولا إضاءة دون زيت.
وعنوان النص يحمل في طياته العديد من المعاني، فسيميائية العنوان تأخذنا في النص للبدايات والنهايات، فقد أوجز القصيدة في العنوان في ما يعانيه الفلسطيني من ظلمة وحصار المتمثل بالتغريبة والذكريات والدموع…، وفي ما يمتلك من إرادة وتفاؤل المتمثل في حضور الزيت المشتعل والمقاوم، وهي الدماء الشابة التي تجري في العروق ولا تخاف أعداءها، فمرة تبتزهم ومرة تجمع شمل الزعتر البري.

سيميائية ألفاظ الطبيعة

وظف العقاد ألفاظ الطبيعة حتى يتجاوز من خلالها القوالب التقليدية، وحملها عواطف جياشة دالة على حبه للوطن وقدم إشارات توضح ما فيه من مآسي، وما حل به من ويلات، فجعل للصبح وللبرتقال حزنا، وجعل للسنبلة دمعة وانحناءة…
ولم يكتف بالعواطف الجياشة الدالة على الحزن تجاه الوطن وما يحل به من هول هذه العواطف المختزنة، فجعل من ألفاظ الحزن والطبيعة مشاعر أمل وحرية وتفاؤل، فدمع الصبح غسل وجه السماء، وانحناءات السنابل تاب منها، ووقف وقاتل من جديد، والسنابل الحزينة أضاءت الشمس، وهذه السنابل صارت قمحا مقدسا ينشر الحب، بعد أن اعتنقت الحرية، بل صار لهذه السنابل في موسم حصادها أغنية تغيظ الأعداء.
وجاءت ألفاظ الطبيعة كردة فعل على كدر الحياة، فوجد العقاد فيها ملاذا وهربا، وكأن ألفاظ الطبيعة شكلت مؤشرا فلسفيا ألا وهو الفلسفة الوجودية التي تعبر عن رؤية الشاعر تجاه الوجود، وبث في كل هذه العلامات والإشارات شكواه.

السيميائية النفسية

في القصيدة تظهر علاقة قوية بين الألفاظ ونفس الشاعر، وصورت القصيدة في أوضاعها المختلفة من خلال إشارات ألفاظها نفسية الشاعر وما فيها من هدوء واتزان واضطراب وحب وعداوة وحزن وفرح.
فالذات رغم اضطرابها بما يحدث حولها يحاول الشاعر أن يثبتها ويصبرها من خلال مناداة المكان، وهو الأم المجازية الكبرى التي تلد الطبيعة بما فيها من سنابل وزيتون وزيت ثم مناداة الأم الحقيقية التي تلد الرجال بما فيهم من دم حام، ثم يأتي بصيغة الأمر لتثبيت النفس ويعيدها إلى اتزانها: (واختبئي في تجاعيد الزمن) وهنا إخفاء لكل عناصر الهرم والحزن والاضطراب.

سيميائية الثنائيات العميقة

واللافت أن الدلائلية والإشارات النفسية بينت عدم اجتياز الذات الشاعرة حالة الإشباع العاطفي، فإن حبس الدموع قابله أن غسلت هذه الدموع المحبوسة وجه السماء، وإن كان هناك اختباء خلف تجاعيد الزمن قابلها بمن يحدثنا عن حزن البرتقال والتغريبة، وإن كان الجرح مغطى، فهو غطاء ذهني، فقوبل بحديث عن جراحات الذكرى، ولا يخفى على القارئ النهم ثنائية الرماد والعودة منه من جديد، وهذا يمثله العنوان الكبير للديوان على ذمة عشتار، وتحوي هذه الثنائية الموت والحياة فالرماد موت، والعودة منه حياة، ولا يخفى كذلك ثنائية الثبات والفرار، الثبات المتمثل بالزيتون وحب الوطن وبالفلاح الذي يموت ويقاتل، والعودة من الرماد واجتماع شمل الزعتر البري، والشعب الذي يقاتل، والجرح المغطى حتى الانتصار والحرية، والفرار يتمثل بالهروب من تجاعيد الزمن، ومن أحاديث النكبة والتغريبة والانحناءات والدموع وبقية الوجع والصمت.

القصيدة:

شعر: جواد العقاد

دمنا زيت البلاد

يا أرضُ احفظي دمعَنا

يا أمنا ورثنا الزيتون،

وكبرياءَ الأجداد

احبسي في كلِّ سنبلةٍ دمعة

واغسلي بدمع الصبح وجه السماء

كي ينبتَ فينا حُبُّ الزيتون والوطن

واختبئي خلفَ تجاعيد الزمن

كي نحبَّكِ أكثر وأكثر

وحدثينا عن حزن البرتقال والتغريبة.

أنا فلاحٌ أموتُ كالحلم وأقاتل

يا وطني..

يا جرحي المُغطى بالذكرى والملح

أعود إليكَ من رمادي،

وإلى بقيةِ وجعي أفر،

وأتوبُ من انحناءاتٍ سنبلةٍ

توزعُ صمتها في صدرٍ شعبٍ يُقاتل.

يا وطني

دمي بعد السنابل يضيءُ الشمس

وطينُ البلاد

يُفجرُ ينبوعًا حيثُ نمشي

نحن أنبياء السلام

قمح الأرض المقدس يحبنا

تعتنقُ السنابلُ الحريةَ

وأغنياتُ الحصاد تبتزُّ أعداءنا،

وتجمعُ شملَ الزعتر البلدي.

من “على ذمة عشتار” ٢٠١٧م

زر الذهاب إلى الأعلى