ملفات اليمامة

الحلاج شهيد العشق الإلهي

الحلاج شهيد العشق الإلهي

دانا أبوزيد – خاص اليمامة الجديدة

أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج، الشاعر العاشق الإلهي، الذي حمل راية التصوف وكان من أهم رواده، وُلد الحلاج في البيضاء في فارس عام 244 هـ/ 857 م، ثم انتقلت أسرته إلى واسط في العراق، وقتل في بغداد عام 309 هـ/ 922م.

نشأته:
توجهت إليه الأنظار منذ طفولته لذكائه اللمَّاح، شفافية روحه، تفتّّح قلبه، حبه وإقباله على ينابيع العلم والمعرفة. يحدثنا تاريخه أنه قرأ القرآن الكريم على أعلام القرَّاء في عصره وحفظه وجوَّده وهو في العاشرة من عمره حيث تعمَّق في فهم معانيه تعمقًا ليس من طبيعة الطفولة البريئة.
كما اُشتهر بالإرادة القوية الموجهة والرياضات التأملية والمجاهدات الروحية الشاقة، الزهد في شؤون الحياة ولهو الطفولة، الاستغراق الكامل في الصلاة والتأمل والتعلق بالدراسات التي تتناول المعرفة الروحية وما تحتوي عليه هذه المعرفة من أنوار وأسرار.
في السادسة عشرة من عمره اتصل بالصوفية ولبس حرفتهم، حيث تتلمذ على يد أعلامهم كالجنيد وسهل التستري وغيرهم، ثم أصبح له هو نفسه مع مرور الأيام مريدون كثيرون، كان يعبر عنهم في قصائد بقوله: “أصحابي وخلاني”.

فكره وإنجازاته:
كان الحلاج ممن يرى التصوف جهادًا متواصلًا للنفس، بالابتعاد بها عن متاع الدنيا وتهذيبها بالجوع والسهر وتحمل مشاق الحياة
ألّف تفسيرًا للقرآن الكريم يرتبط بمنهجه في التأمل ويعتمد فيه فكرة كون الله ليس إلهًا منفردًا عن مخلوقاته، بل أنه يمثل قدر البشر المحتوم الذي سيذوب فيه البشر، و أن على الإنسان أن يبحث في أغوار نفسه ليدرك الله (سر النفس). وقاد منهجًا جديدًا في التصوف يرى فيه أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وقد طوَّر النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع نظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه.
ألّف الحلاج العديد من الكتب، وذُكر له قرابة ستة وأربعين كتاباً، ومنها: طاسين الأزل، الجوهر الأكبر، الشجرة النورية، الظل الممدود، الماء المسكوب، الحياة الباقية، قرآن القرآن، الفرقان، السياسة، الخلفاء والأمراء، علم البقاء والفناء، مدح النبي، المثل الأعلى، القيامة والقيامات، هو هو، الكبريت الأحمر، الوجود الأول، الوجود الثاني، اليقين، التوحيد.
وللحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي والتصوف، كما للغته مميزاتٌ خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين، كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير، كما عبَّر في شعره عن فلسفته الوجودية أنَّ الله في كل مكان.
ومن أشهر قصائده:
عجبت منك و مني، أنا من أهوى و من أهوى أنا، إذا هجرت، لي حبيب أزور في الخلوات، أنتم ملكتم فؤادي، رأيت ربي بعين قلبي، والتي أذكر منها:
أَنتَ حَياتي وَسِرُّ قَلبي
فَحَيثُما كُنتُ كُنتَ أَنتَ
أَحَطتَ عِلماً بِكُلِّ شَيءٍ
فَكُلُّ شَيءٍ أَراهُ أَنتَ
فَمُنَّ بِالعَفوِ يا إِلَهي
فَلَيسَ أَرجو سِواكَ أَنتَ
وتعد قصائده من القصائد التي تُطرب سامعها، مما دفع بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي إلى استخدام كلماته، كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة في قصيدة (يا نسيم الريح)، والموسيقار المصري عمر خيرت في قصيدة (والله ما طلعت شمس ولا غربت)، كما ألهم الحلَّاج الكثيرين بشعره وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلَّاج، والمستشرق الفرنسي “لويس ماسنيون” مؤلف كتاب” آلام الحلَّاج”، وأنتجت عن قصته العديد من الأعمال الفنية، مثل: مسرحية  “مأساة الحلاج” عُرِضَت عام 1971 في مصر، مسلسل “سيف اليقين” أُنتِج عام 2002 ومسلسل “العاشق: صراع الجواري” أنتج عام 2019، فضلاً عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية والأدبية.

مقتله:
كثرت الوشايات والأقاويل الخاطئة عن الحلاج حيث اتُّهم بالكفر وادِّعاء الألوهية حتّى وصلت الشائعات إلى المقتدر العباسي، وبناءً على ذلك أمر بالقبض عليه، وسجنه ظلماً لتسع سنوات عانى فيهم شتى أنواع التعذيب، وفي السادس والعشرين من آذار/ مارس عام 922 أُخرج الحلاج من محبسه وجُلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه  إلى بارئها، وفي اليوم التالي قُطع رأسه وأطرافه وأُحرق جثمانه ثم نُثر رماده في نهر دجلة، وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه.

وفي النهاية.. كل الحب والرحمة لروح شهيد التصوف الذي نذر نفسه لربه سبحانه، و أقبل عليه بكل ذاته، وقد اشتعلت أحاسيسه بالوجد، والتهبت عواطفه بالعشق وارتبط قلبه بالله واقتربت روحه منه قربًا يفنى فيه عن كل شيء، ليبقى له بعد ذلك كل شيءٍ، إنه فناء الخالدين بربهم، وهو فناءٌ وخلودٌ، لا يعرفه إلا الأفق الصوفي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى