ثقافة

خيبة الحضارة بين التجسيد والتخيُّل: هاشم شلولة

خيبة الحضارة بين التجسيد والتخيُّل

بقلم: هاشم شلولة/ شاعر فلسطيني 

يعيش العقل الإنساني حالة من الصدمة والذهول.. وقد انعكس ذلك على علاقته فيما وصل إليه من نتائج صياغته الجديدة للحضارة الفعلية والوجدانية؛ تلك _الصياغة_ التي لم تذَر خليةً فيه تخلو من الانبهار السلبي الذي يتداعي مع التكرار، ويصير واقعًا أليمًا يسلب الإنسان من إنسانيته التي ينشدها من الحضارة.. مما يؤسس لحالة من الخيبة والرتابة المجنونة التي تفتك بالمعنى المبحوث عنه والمرجو من إملاءات العقل التجسيدية وإضافاته لمشهد الحضارة؛ لأنَّ شعور الاتساع والثقة بالمُنتَج العقلي ليس مُنفَصِلًا بالتمام عن حالةٍ انفعالية تُشكِّل هذا المُنتَج..

ذات الشعور عاشه الإنسان في الفترة الأولى لما بعد الثورة الصناعية. المدهش أنَّ العلاج لهذا الشعور كان استعانةً بأدوات الحضارة بمفهوم اليوم والثورة بمفهوم الماضي.. هذا بحدِّ ذاته إخفاقًا وفخًّا وقع فيه الإنسان المُعالِج والمُعالَج؛ لأنَّ الشرط العلاجي الواجب اتِّباعه موجود في جوهر المشكلة.. إنَّ الممكن الأقرب لطبيعة الحل؛ هو ابتكار أو خلق حالة من الانفصال الواعي المُرتَّب له عن زحف الثورة والحضارة وتمددهما في وعيَيّ الإنسان المُعاصِر لهما والقابِع في سلاسلهما.. وترتيب اندماجه معهما بحيث يحفظ جزءً من شكله الذي كان قبل النتيجة؛ ليحدُث التوازن والمفاضلة بين الكائن والذي كان..

بالطبع الزحف لن يكون زحفًا رفيقًا أو فيه ارتسام لحالة الإنسان الذهنية والمتفاعلة مع مفرزات ونتائج الحضارة.. أذكر الانفصال؛ لأنّه الفعل الحلّي الأوحد لكنّي أمتلك مخزونًا ضخمًا من اللاثقة في رؤيةٍ تطبيقية تبدد هذا الانفصال.. فنحن كبشر اليوم مُحاصَرين، هذا الحصار ليس حصارًا جمعيًّا كما يحدث في الحروب والأزمات الإقتصادية التي تلاحقت وتتالت على العالم؛ بل حصارًا فرديًا أقرب لفردية مطلقة؛ تجعل من الإنسان الواحد بذاته الواحدة في حالة من التشظي الرافض للجماعة، وقد حدث ذلك بواسطة الحضارة؛ مما أحدثَ فيضان من الحيرة والصراع..

يعيش في نفسِه الداخلية المُحطمة التي لم تنبهر بجماليات المشهود بقدر انبهارها بالتشكيل الجديد للمشاعر والانفعالات.. حالة الحيرة هذه تتلخص بين مشهدين، الأول؛ في أنّه عالق في بساطةٍ سبقت الحضارة لشكله ومعناه ومشاعره وانفعالاته وما يحيط بذلك كله من هواجس وأخيلة.. والمشهد الثاني يتمثل في شِقيّن، الأول الكيفية التي يعايش فيها شكله الجديد؛ هذه الكيفية التي طحنته، وجعلت منه مجرّد آلة تخضع بكامل إرادتها لنتائج هذه الحضارة كما حدث في الماضي السابق والماضي الحاضر.. والثاني؛ في استيعاب أنه لم يعد هذا البسيط الذي تخلو حياته من التركيب والركض السريع والصامت الطوعي وراء النتائج التي لا تكف عن التجدد..

خيبة الإنسان عريضة، ولن تكون يومًا عارضة. الإنسان يشعر بقتله لنفسه بنفسه كل يوم يمر، مع كل أداة تسهّل حياته وتُسرِّع وتيرتها، وتمنحها حِراكًا ثابتًا وذات مسار واحد للأمام.. النشاط المعهود السالف يصبح أقل، ويتضاءل مع كل يوم يمر على العالم. أضف لذلك؛ الأزمات التي تلاحقه فردًا أو جماعة، ولست بصدد ذِكر دوافع وأسباب هذه الأزمات بقدر إيماني بانتحار المنظومة الأخلاقية الإنسانية تقادُمًا وتنازُلًا، وما يعزز تلك الخيبة؛ هو أنَّ الإنسان واحدًا واحدًا وكُلًّا واحدًا.. يشعر بأنَّ نفسه الشهوانية المُقادة والتابِعة هي المسؤولة عن الانزياح نحو الانحطاط الذي يكبر كل يوم ومع كل صورة أخرى حضارية تُضاف إلى ألبوم صور علاقته بنفسه والكون والزمكان.. ولست بمُدرِكٍ لما ستؤول إليه أحوال الإنسان الجديد الذي يخوض حربًا شرسة مع البشري البسيط والحيوي.. المُتخَفِّف من شوائب وأثقال وعوالق الحضارة التي قتلته، وبنَتْ له ضريحًا في ذاته؛ دفنته وإنسانيته العادية فيه..

زر الذهاب إلى الأعلى