نصوص

الجالوس ذات زيارة إلى فلسطين..إنه يوسوس.. في المياه الخاطئة..بقلم: المتوكل طه

نصّ

الجالوس ذات زيارة إلى فلسطين

..إنه يوسوس في المياه الخاطئة !

بقلم: المتوكل طه/ شاعر فلسطيني

***

هذه المرّة الثالثة ، التي يعود فيها صديقي وشقيقي الفنان محمد الجالوس إلى شيءٍ من فلسطين. وهي عودة أقلّ من زيارة، مسقوفة بالمواعيد الاحتلالية والحدود الشائكة. لكنه يبتهج كلّما عبر الجسر نحو أريحا ، ليستشرف البلاد التي تخلّقت في مراياه، من أحاديث جدّته وأبيه وشيوخ المخيم الطاعنين في العشب والألم.

الجالوس مبدع عبقري وصل العالمية، وعلّقت الدول الكبرى لوحاته في متاحفها، وأرهص ، مبكّراً، بقصص قصيرة توّجته أديباً يُعوَّل عليه.. لكنّ الإنسان الطافح بالأناقة فيه، هو صورته اليومية الأجمل.وأعتقد أن اقترانه بالعزيزة جداً آمنة ابنة اللطرون، هو ما تمّم له الإطار وعبّأه بالينابيع والمواقد.

وأعتقد أن أُمّ الجالوس قد حلمت بوردة فحَملت به، فجاء كما يشاء السحر اليانع ، دفقةً من شهدٍ تجمّد، فصار كما نراه.

ووصل للمرة الثالثة إلى رام الله ، وحطّ في الفندق الوسيع، وجلس متأمّلاً، على مقعده أمام النافذة، وقال لنفسه ؛ ما فائدة النافذة إن لم تمنحك المنظر ؟ ثم راح يهجس : أين تقف “آمنة” أخرى في المخيّم، والتي لم تجد بلدتها،حتى الآن !

وأي مُرافعةٍ، عليها أن تُقدّمها لنفسها ، لتظلّ أمّارة بالحياة والإلهام!

والناس منشغلون بالغبار الملغوم بالرصاص المجنون، والأسئلة المكرورة والمُتعِبة والدامية !

لقد رأى الجالوسُ النجومَ ترمي أثوابها القديمة، فترتجف الجدران والأمواج البعيدة! فصاح: خذوني إلى البحر وعكا، لعلّي أحتشد بالديناميت الملوّن، الذي سأنعفه على الوجوه وهي تتلقّى لوحاتي المشتعلة!

وأين سيمضي الرجلُ ، والطرقات حالة انغلاقٍ مُمضّة ، تمنع الفَراشَ من التحليق ؟ إلى نوافذ الهلع والغَرابة والجِنس والقطران، أم إلى الشوارع وتصادم الأحزمة المتفجّرة ، والباعةِ الذين يُقايضون قلبه بحفنةِ سُكَّر!؟

عليه أن يجترحَ حروفَ الغيب وألواناً لا نعرفها ، حتى نفهم المعنى المُضمر في المشهد الخائب والفولاذيّ الساديّ ، وينفثَ في ناي الملائكة، وينقشَ الماء على صخرة الخلود، على الشاطئ ، تلك الصخرة التي جفّفت عليها جدّتُه مشيمتَها ،ذات ولادةٍ لم تتوقّف..إذ كانت، وكلّما غمست ساقيها في البحر،كانت تعود وهي حامل بالأمواج، فجاء أبوه من زواج الموجة بالحورية.

وعندما زرتُ مرسَمه قبل ثلاثين ، سألتُ : حينما يرتطم زئبق الفرشاة بالحَبق ،ألاّ يبكي، أو تأخذه الدّهشة ؟!

ربّما أخذت الريحُ قميصَ الجالوس .. ومع هذا، عليه ألاّ يعتقد بأنه شجرة في الخريف، أو فسيلة كسرتها أظلاف القطيع، ستُنهي الحكاية! بل عليه أن يرى نفسَه شجراً نابضاً، يرى كل ما يسوح حوله في الوهاد، ولا يرمش .. بل يحفظ كلّ ما يدور، ليعيده ضوءاً للناس والرّعاة، لعلهم لا يتعثّرون، في الأيام المُقبلة ..

ورأيتُ أن التين والرمّان والرطب المتغضّن قد دبّغ قميصه ، مثل طفل يسوح في البراري ، لكنه لا يأبه!إذ لديه غير قميص، بعضها يُشبه قمصان النبيّ، وبعضها يقيه حرّ الشتاء وبرودة الصيف ووثبة الشمس في الطريق.

وعاد سريعاً إلى عمّان! لم أخبره بأنني تعوّدتُ عليه كثيراً هذه المرّة، وأن دمعة يابسة فرّت منّي بعد أن عانقته أمام الفندق. وفي اليوم التالي مررتُ من أمام الفندق لأرى طيفه وأشمّ ريح القميص، لكنني رأيت أسراباً من الأشجار وبعض السفوح ورَفّا من الطيور تتّجه شرقاً.. فعرفت أنها ذاهبةً نحوه حتى تؤنسه، ولكي لا يبقى وحده!على الرغم من حضور آمنة الوارف، لكنّها بكّاءة إلى حدّ الزوغان ، وشفيفة إلى مقام التماهي.

وربما تذكّر! كانت آمنة بلسانها الحذِق تستخرجُ لبَّ الكستناءالأحمر، كلّما دبّت النار في كوانين المطر، وهي تسترجع بيت نوبا.. فيطفو الرجلُ فوق الغيوم الساخنة ..ولم ينتبها أن السماء الصافية عُرْضةً للرّعد !

وأن أحداً لا يتوقّع مزاج البحار المُظلمة .. ومع هذا، أعتقد أن كلاً منهما يسطّر تاريخ الآخر! وأنهما سيُبدعان مَجرّةً جديدة .. في الفضاء الكالح.

صحيح أنها كانت تشعّ بكلّ الألوان، وأنه سقط في جنّتها، وأن أيامه معها كانت حلماً وادعا ! لكنّ شرارة النار الماتعة، التي أشعلها حليبُ الوردة، وكانت عيناها تلمعان، هو الذي جعله كَمَنْ يندفع من نفقٍ مُظلمٍ طويل.. إلى مهرجان ! وأنّ سماءه مُقمرة، وأن ثمة عوالم جديدة مطويّة بين دفتيّ امرأة، استقبلت أحلامها بحفاوة، بعد أن غادرت كوابيسها القديمة.

فلماذا تلهبُ النارُ قلبَه ؟ وأمله وثّاب ؟ وكأن الذي قاده إليها كان لوحة لم يرسمها بعد ؟ والبرقُ يشقّ سماواته ؟

وها هو يوسوسُ لنفسه ، بعد أن عاد ،وأكاد أسمعه ،بأنه في المياه الخاطئة ؟

عليه أن يدرك أن الأحلام والحقائق يعيشان في عالمين مُنفصلين .. لهذا، فإنَّ الرحلة التي قطعها .. كانت ناقصة، وعليه أن يكملها .. وسأكون مع المبدع الساحر زياد خدّاش، والرائع دائما وليد الشيخ، ومهيب الحبيب، والجواد أبي العلاء ، وأخي أبي خليل، وسينتظرنا المفكر أبو ضمير ليتلو بيان الخلاص في القدس. ولآمنة أن يمتلئ رأسها بالفرح بدل الدموع.

وتذكّر !

لقد رأى فيما يرى النائمُ، أن في صالته لوحةً كبيرة لامرأة شبه مستحيلة !

وتخرج المرأةُ من اللوحة فتصبح من لحمٍ ودم وفتنة .. فتغفو على ذراعه! ثم يقومان ويتعابثان، ثانيةً ..ويُقبّلها طويلاً ، ثم تعودُ المرأةُ إلى اللوحة، فتتجمّد هناك، كما كانت، ولكن تتّخذ هيئة جديدة !

.. وهكذا صار يُناديها لتهبط إلى سريره، كلّما استيقظت فيه طفولة “قزازا” المُفتَرَضة، أو استبدّ به الشوق !

.. نهض عن مقعده، واتّجه نحو الصالة .. ونظر !

لم تكن هناك أيّ لوحة لأيّ امرأة، فابتسم .. لقد كان حلماً.

حاول أن يستعيد الحلم بكلّ تفاصيله، فرأى أن المرأة التي خرجت من اللوحة كانت أوّل فتاة أحبّها، بكامل شحمها ولحمها ؛ إنها آمنة. وعندما عادت المرأة إلى اللوحة، كانت امرأة غريبة، لا يعرفها. ولهذا سيقف أمام إطاره الآتي ، وسيرسم ما لا نطقت به القرون ، وستكون بألوان الجنّة.

زر الذهاب إلى الأعلى