نصوص

الصراخ.. قصة قصيرة

الصراخ

بقلم: عبد الصمد الزياني

صارخ.. كان أول شيء يدركه أنه عارٍ، أشعل سيجارة، نفث دخانه ليعانق سقف الغرفة، و أدار رأسه في الغرفة بحثاً عن مكان للجلوس، جر كرسي المكتب إلى وسط الغرفة، وجلس.

حاول تذكر القليل مما حدث، لكن لا شيء، يداه ملطختان بالدماء،

ولا يعرف شيئاً عن الجثة الممددة على سجاد الغرفة. العلامات، تدل على أن شجاراً عنيفاً دار هنا، كتب ممزقة، مكتب مدمر، ملابس في كل ركن، حتى ما كان معلقا لم يسلم مما حدث.

نفث آخر نفس من سجارته، و أطفأها على السجاد برجله العارية، طأطأ رأسه وفكر قليلاً، هو الذي لم يخرج من عراك يوماً إلا خاسراً، فاز اليوم والخصم ميت أمام عينيه، ممدد على وجهه في دمه. لا يتذكر هوية الضحية ولا أسباب الخصام.

على سجاد الغرفة أثارت عيناه ورقة سوداء عليها كتابات بحبر أبيض، أخذها بحث عن نظارتيه في المكان لا وجود لهما، و بضباب يملأ عينيه بدأ القراءة:

قصتي بدأت حين ولدت وكان أول ما سمعته صراخ أمي، يقولون أن المولود الجديد لا يعي ولا يذكر شيئاً، لكنني أذكر صراخ أمي

وهذا فقط ما أذكره عنها. عرفت في مستقبل ليس ببعيد أصبح الآن ماضياً أنها ماتت في ولادتي.

تزوج أبي بعدها وكانت زوجته ماكينة صراخ، تصرخ في وجهه كل صباح، وتصرخ عليه ليلاً و تتهمه أنه لا يتقن ممارسة الحب كما يفعل جارنا علي، كانت تصرخ عليَّ أيضاً وتضربني، أتذكر الصراخ كلمة كلمة، لكن لا أتذكر الضرب، ألم الجسد زال وضرب الكلمات مازال عالقاً.

تركت المدرسة مبكراً، لأن الأساتذة كانو يصرخون، كانت فاشل أقل العبارات جرحاً لي، كان التلاميذ أيضاً يصرخون، في لعبهم، في عراكهم و في قراءتهم لآيات الله، و في سبهم لي، فتركت المدرسة و البيت هربا من الصراخ.

في الشارع، الذي صرت له ابنا، و الذي لم يكن لي والداً، كثير من الصراخ، أبواق السيارات وصافرات المخزن صباحاً، وعربدات السكارى ليلاً في خصامهم مع بنات الليل، صرن له بناتا رغم أنه لم يكن لهن أبا يوماً.

كبرت، و من سوء حظي أن تعلمت النجارة، حرفة جمعت صراخ كل الحرف، ماكيناتها تصرخ، المطارق، المسامير، الخشب، أصحابها يصرخون و زبائنها أيضاً.

كل ما اتذكرهه هو الصراخ، حتى في عزلتي هنا في هاته الغرفة الصغيرة، أسمع الصراخ في رأسي، صراخ لا ينتهي، و أمي صارخة تقول: “ابني ابني ابني”.

قرر اللحاق بها.

هنا أدرك أنه كان في صراع مع نفسه ليلة أمس، وقتلها، لكنه لم يمت بل قتل النفس الصارخة فيه، و بعث هو بندبة في القلب و ندبتين في الذاكرة…

زر الذهاب إلى الأعلى